واقع السند (أو الدعم) العلمي في التاريخ بين المواصلة والانقطاع
الدكتور محمد بنيعيش
أولا:لا ازدهار للبحث العلمي بغير دعم وحث رسمي
إذا كان وزن العلم في الماضي واحترامه قد تم منذ البداية داخل المساجد والجوامع والزوايا والتكايا فإن تطور المدينة والحضارة العمرانية للإنسان قد دفعت به إلى تأسيس الجامعات والمعاهد الرسمية عبر عنها في قرون متقدمة من تاريخ الأمة الإسلامية بالمدارس، كالمدرسة النظامية ببغداد وغيرها.
إذ أصبح العلماء حينئذ لهم خاصية رسمية مدعمة من طرف السلطة وطرق ممنهجة ومبرمجة للتدريس وتخويل الشهادات العلمية تحددت من خلالها التخصصات الدقيقة والتفريع الموضوعي للعلوم والفنون، وذلك بإشراف من الدولة نفسها على سلامة ومذهبية تلك المدارس، بحيث أن المدرسة النظامية كأشهرها كانت تمثل دعامة علمية للمذهبية الرسمية للدولة وحماية للاستقرار السياسي والنفسي والاجتماعي، وبالتالي كانت تمثل مفخرة لأولئك الخلفاء وحتى الوزراء الذين سهروا على إنشائها كما اشتهرت بإسمهم، شأن المدرسة النظامية في نسبتها إلى الوزير نظام الملك، وشأن المستظهري نسبة إلى الخليفة المستظهر بالله وهو كتاب للغزالي في فضائح الباطنية الذي أوعز إليه أن يؤلف كتابا موضوعيا يحمي به معتقدات المجتمع ويردع تمويهات وزئبقيات الزنادقة في عصره، كان من نتيجة انتشارهم اغتيال الوزير نظام الملك على يد القرامطة الباطنية، ومن ثم دعت الضرورة إلى حماية علمية للأمة، وفي اللية الظلماء يفتقد البدر!
إذ يقول الغزالي عن هذه الظروف “وكان قد نبغت نابغة التعليمية وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، عن لي أن أبحث عن مقالاتهم لأطلع على ما في كتبهم، ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثا من خارج ضميمة للباعث الاصلي من الباطن، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم”
ومن هنا فقد أصبحت المدرسة النظامية ذات فعالية وإنتاج إيجابي له دور مهم ورئيسي سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي والنفسي، وبالدرجة الأولى على المستوى العقدي الذي هو أهم ركائز الأمة وأساسها الذي تنبني عليها مدنيتها وحضارتها ووعيها.
وهذا النموذج المدرسي قد وجدت له نظائر كثيرة في العالم الإسلامي، تتفاوت فيما بينها مستوياتها وإشعاعاتها العلمية والأدبية والصناعية… كجامع قرطبة بالأندلس والقرويين بفاس والزيتونة بالأندلس والأزهر بمصر إلى غير ذلك من المدارس أو الجوامع العلمية (بمعنى المجمعات) التي ازدهرت بازدهار الاقتصاد والسياسة وطبيعة الأنظمة القائمة آنذاك، مما كان تشريفا للعلم والعلماء وإدراكا لدوره الرئيسي في الحياة الإنسانية عموما، وعلى مستوى الحكم والتشريع خصوصا!
وفي هذا المجال يذكر ابن خلدون عن الواقع العلمي والتعليمي بالمغرب والأندلس أن “سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر، وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس، واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلا …”
ثم يمضي واصفا أوجه البطالة الفكرية عند المغاربة في زمانه بسبب هذا الخلل العمراني وانقطاع السند المعرفي: “وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان، ولم يتصل سند التعليم، فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم، وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها، فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة في التصرف في العلم والتعليم، ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك”
وابن خلدون في هذا النص كأنه يسدل الستار على المد التقدمي للعلوم في المغرب والنواحي، والذي بقي مسدولا إلى يومنا هذا رغم بعض المحاولات الشكلية والرسمية غير الجادة في التجديد، بحيث إن جامعة القرويين ومعها حتى دار الحديث الحسنية وكذلك شعب أخرى مرتبطة بها شكلا أو مضمونا ،من الداخل أو الخارج حتى الخليج، لم تستطع أن تطور مناهجها رغم إعادة الترميم لهذه المؤسسات وتقسيمها إلى فروع شكلية، مع إعطائها هالة أكثر مما هي إليه مؤهلة، بحيث الملاحظ على كثير من خريجيها وكذا أساتذتها ،ولا أستثن نفسي منهم في كثير من الوجوه ، هو ما ذكره ابن خلدون في النص السابق، وذلك لانقطاع السند فيها سواء على المستوى العلمي أو الروحي كذلك، ولهذا فقد لا نجد لهم حضورا فعالا على مستوى الكتابة أو التأليف من العيار الثقيل والاجتهاد العلمي ولا على مستوى الندوات والمناظرات كمواكبة للتطورات، وأيضا لحل الإشكالات والإجابة عن التساؤلات بالدفاع العقدي عن الدين وقضاياه، بل كما وصفهم ابن خلدون “تجدهم سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون”.
ومن ثم أصبحت العلوم المدرسة بكثير من مؤسساتنا المعصرنة شكلا ومصطلحا توصف من طرف طلبتها والمتربصين للإساءة إليها بأنها: “هذه بضاعتنا ردت إلينا” أي أن أغلب التدريس فيها عبارة عن تلقين إملائي وحفظ واستنساخ ثم إهمال وانسلاخ، فحصل عندئذ خلط وخبط في هذه المؤسسات التابعة للتعليم العالي والبحث العلمي حول دورها ووظيفتها والغاية المتوخاة من التدريس والتكوين بها. بحيث لم يعد يميز مثلا بين مفهوم جامع القرويين وجامعة القرويين،ونفس الأمر في الجامعات العربية الأخرى ذات الشهرة التاريخية والعلمية، إذ الأول يعني تدريس العلوم الشرعية التلقينية بالحفظ والسماع والإجازات والوعظ والإرشاد وتخريج أفواج القراء وأئمة المساجد والقيمين على الأوقاف والأحباس، وذلك على مذهب المالكية لا غير، وخاصة في مجال الفقهيات، على رأسها كما كان قبل حفظ منظومة: عبد الواحد بن عاشر، المرشد المعين على الضروري من علوم الدين، ومختصر خليل، والرسالة لأبي زيد القيرواني ومتن العاصمية: تحفة الحكام، إضافة إلى متون النحو كألفية ابن مالك والآجرومية وغيرهما، كما قد يدرس التفسير ومصطلح الحديث… إلخ.
ومن هنا فالغالب على هذا النوع من التدريس هو التلقين الحرفي والاستظهار، وحتى إن وجد من يريد التوسع فيها فلا يكون سوى شارح ومستفيض في التدقيق اللغوي على أغلب تقدير.
ثانيا:الواقع العلمي وتأثير الدعم الرسمي والمجتمعي في تطوره
ومع هذا فقد كان جامع القرويين فيما قبل أكثر ازدهارا وعلما وتفتحا، وكان رجاله لهم حضور قوي سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي بصفة عامة، بل إن جل الزعماء السياسيين سواء قبل الحماية أو عندها قد تتلمذوا في هذا الجامع وتخرجوا منه، أو لنقل تأسسوا فيه تحصيلا وتفكيرا. وذلك لما كان يمتاز به جامع القرويين من احترام وتقدير على مر العصور والأدوار وبحسب الأزمنة والأطوار، وبالتالي فقد كان له تفاعل مع الواقع السياسي والوحدة الوطنية والحالة الاقتصادية للبلاد ووعي العباد. كما كان له حظه من المد والجزر بحسب تواصله مع المراكز العلمية المرموقة عبر الأزمنة، وذلك لما لتلك المراكز من أثر على جامع القرويين في باب اتصال السند العلمي ودعمه من خلال الحركة الدؤوبة والترحال في نقل البرامج التعليمية واستدعاء الأساتذة الأكفاء لتطوير المناهج ومسايرة الركب العلمي العالمي، وعن مظاهر التعثر وأسبابه التي كانت في الماضي وهي نفسها تتكرر في الحاضر، يقول ابن خلدون “وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم، فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم، وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها”
وفي المقابل نجده يسبر خلفيات تقدم المراكز الأخرى التي لها نفس التخصصات على أهل المغرب، رافضا فكرة أو لنقل وهم التفوق الذاتي والعقلي بالاستعداد خصوصا، والذي كان يفسر به التفوق العلمي في تلك المراكز لأهل المشرق على أهل المغرب، فنراه يقول: “ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ الآلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت ومن جملتها تعليم العلم، وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا، وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم، على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته، فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال، فكثرت الأوقاف لذلك وعظمت الغلات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها، والله يخلق ما يشاء”.
وهذا النص التاريخي يصف لنا واقعا ملموسا كان عليه حال العلم والتعليم بالعالم الإسلامي وهو ذو ارتباط وثيق بالمجال السياسي والاقتصادي والعمراني عموما، كما يصور لنا مستوى الوعي والمسؤولية التي كان يشعر بها أهل ذلك الزمان تجاه الجانب التعليمي حتى أنه كانت ترصد الأوقاف لصالح طلبة العلم من أجل توفير الحاجيات والضروريات اللازمة والضامنة لسلامة التحصيل العلمي، بحيث كانت تمثل منحا مادية تقيم أود المتعلمين وترفع هممهم عن الحاجة والمذلة بسبب الاحتباس الذي رصدوا أنفسهم في سبيله وهو في الحقيقة احتباس من أجل مصلحة الأمة وتنوير عقولها وإفادتها بالوعي والتثقيف والتشريع والتصنيع، والعمل والإتقان، فيكون العائد مفيدا للعموم وبذلك يستقيم العمران ويواكب الركب على قدم وساق كما يستهان حينئذ بالمصاعب والمشاق!
لكن حينما ينقطع السند وينضب المدد يجف المداد ويضيع المراد، إذ في عصرنا لم نجد أوقافا ترصد لصالح طلبة العلم بالمعنى اللازم والمغني عن السؤال والاشتغال، ولم نجد تواصلا بين أهل المشرق والمغرب من باب نقل وتبادل المناهج والمعارف، لأن التواصل كما سبق وقلنا غير قائم بين الأقارب من الأساتذة والعلماء في نفس مؤسساتهم فكيف سيتحقق بين الأباعد، إذ فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال!
كما أننا لم نجد في الغالب أساتذة أكفاء يجمعون بين تحصيل المنقول وتحليل المعقول، وإنما هي مظاهر محتشمة ومراهنة على البقاء والاستمرار الشكلي للعلم والعلماء، وفصل متعمد بين النص والواقع وبين العقل والنقل، والتقليد والاجتهاد وبين النظر والتطبيق، حتى أصبحت العلوم غير ذات باعث والتخصصات لا مجال فيها لتوسع باحث، لأن الأمور قد وسدت إلى غير أهلها، واستهلكت جردا واجترارا ، فقامت القيامة قبل أن تقوم حسا، وتبعثرت عندها قيمة العلوم واستهجنت مكانة العلم والعلماء ولم يعد يوظف في حقلهم سوى الألفاظ والأسماء، على سبيل التكرار والاستنساخ والمهاترات والمناقرات، لا يجدون إلى المعنى سبيلا ولا لما أشكل من الألفاظ تحليلا أو تأويلا، وكيف يحلل ويؤول من بني أوله على قوالب جامدة وكنزت ذخائره في دهاليز بائدة، ولم يعد يجد لنفسه مدا ولا مددا.