مقهى ،،بركنت،،
شحلال محمد
يرتبط أهل بلدتي ب،،بركم،،أو عين بني مطهر، عبر علاقة قوية منذ أيام الاحتلال الفرنسي الذي كانت هذه الربوع منطلقه لاجتياح باقي التراب الوطني.
ظلت ،،عين بني مطهر،،تنسب إلى أحد رموز الاحتلال الفرنسي وهو الضابط Berguent حسب جل الروايات،وما زال العديد من الناس يميلون إلى هذه التسمية رغم أصالة التسمية الرسمية.
تبعد بلدة ،،بركم،،عن مسقط رأسنا بحوالي 70كم،ومع ذلك فإنها ظلت مسارا لا بديل عنه للوصول إلى مدينة جرادة، رغم أن المسافة أقصر بكثير عبر منتجع ،،تكافايت،،لولا إكراهات المسالك في القديم.
كان السفر من بلدتنا نحو جرادة في الماضي،يعتبر من المكاسب،ذلك أنه كان يسمح بركوب أول حافلة تربط بينهما منذ أواخر الاحتلال الفرنسي.
كانت الطريق المعبدة تنتهي في عين بني مطهر،حيث تستمر في اتجاه ،،تندرارة،،وباقي المدن،بينما تبدأ المعاناة منذ مغادرة،،بركم،،في اتجاه،،لمريجة وسيدي لحسن فتاوريرت !
كانت الرحلة أكثر مشقة في فصل الشتاء،حيث تتعرض الحافلة لأعطاب وتوقفات اضطرارية عديدة،غير أن الأهالي كانوا يعدون أنفسهم لكل الطوارىء،حيث يتزودون ب،،لعوين،،وهو زاد المسافر كما هو شائع بين الناس.
وإلى جانب،،لعوين،،فإن المسافربن لأول مرة،كانوا يتسلحون بأغصان الشيح أو قطع من حلوى،،افليو،،تحسبا لدوار الرأس الذي يضطر العديد منهم للاستفراغ ،ولا يصلون وجهتهم إلا بعد معاناة حقيقية.
كانت آثار السفر الشاق بادية للعيان،حيث يظل الوحل عالقا بتلابيب المسافرين،ناهيك عن روائح الأعشاب المسكنة التي تتضوع منهم،مما يجعل المستقبلين ،لا يخفون التأفف .
إن مشقة السفر ما تلبث أن تشغل الحيز الأكبر من الأخبار،حيث يعيدون على الأسماع شريط الأحداث بكل أمانة،وإن كان هؤلاء البسطاء يستبطئون يوم العودة لتتحول الرحلة إلى مسلسل يزداد تشويقا كلما أعيدت حلقاته من غير ملل.
كنا نرتبط ب،،بركم،،بإلزامية المرور،إلى جانب ما ترتب عن هذا المرور من تداعيات.
لقد أصبح ل،،بركم،،عندنا موقع أثير في النفوس : فمن جهة،هناك الكؤوس المخصصة للشاي،وهي كؤوس كانت تجلب من هذه المدينة حتى صارت،،ماركة مسجلة،،إذ يحرص الأهالي على تناول الشاي في،،كيسان بركم،،التي تبز كل ما سواها،حتى ساد الاعتقاد بأن هذا النوع من الكؤوس هو منتوج خالص ل،،بركم،،!
أما من الجهة الأخرى،فإن،،بركم،،تظل حاضرة في الذهن عبر أحد مقاهيها التاريخية والفرن الأسطوري.
كان هذا المقهى بمثابة باحة استراحة، تتوقف عنده الحافلة في الذهاب والإياب،وكان القائمون على هذا المقهى ،يعدون كؤوس القهوة مرفقة بالحليب بمنتهى الجودة،حيث كانت المواد في كامل عذريتها،ذلك أن البن كان خاليا من المواد الصناعية،بينما كان حليب البقر المحلي يصل من الضرع مباشرة .
كنت ممن عرفوا هذا هذا المقهى منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي،ولكن خدماته كانت تبلغ أوجها حين يقتني المسافر قطع الخبز(بولانجي كما كان يعرف)من فرن على بعد أمتار معدودة.
كان الفرن يحضر خبزا يسيل له اللعاب، إلى درجة أن جل الناس كانوا يلتهمونه من غير مرفقات،بل إن بعض الأشخاص،كانوا يقتنونه ليكون هدية للعيال أثناء العودة،حيث كان ينسي فيما عداه، بما في ذلك الفول السوداني الذي ينتظره العيال !
لقد استطاعت مخبزة جرادة(الكانتينا) أن تنافس فرن ،،بركم،،في جودة الخبز،حيث كنا نتهافت نافذة هذه المخبزة الأنيقة لاقتناء،،الكومير،،الذي تجتذبنا رائحته عندما نسرق النظر إلى قطع الخبز المحمرة، وهي تصفف في الرفوف المعدة لها،أما ،،قهوة بركم،،الممزوجة بالحليب،فقد ظلت في الصدارة على مدى سنين عديدة،قبل أن تظهر أولى المقاهي العصرية بجرادة.
توسعت ،،بركم،، وتنوع فيها العمران،وعرفت فيها الزراعة المسقية تطورا لافتا،لكن القهوة اللذيذة والخبز الأسطوري، أصبحا من أخبار الماضي.
صحيح أن المقهى ما زال قائما ،وتتوقف عنده الحافلات،لكن الخدمة تراجعت،وافتقدنا نكهة ،،قهوة حليب،،التي لن تختلط بغيرها،أما الفرن،فما زال ينتج الخبز،لكنه خبز قد يملأ البطون الجائعة،لكنه لا ييجتذب العين كما عهدنا ذلك في زمن اختفى من بصموه بالصدق والإتقان في كل شيء !
حيى الله ،،بركم،، وأهلها ،التي أتوقف فيها من حين لآخر وأنا أسعى لمحاكاة مشاهد وأحداث، لم يعد لها من مسرح إلا مخيلتي التي تحيي صور ،،الظهرة،، عندما كانت مرتعا للخصب، وطائر الحبارى ،وقطعان الجمال والغنم التي ضاع ماؤها ومرعاها !