مقاصد العبادات المشهورة في الإسلام
إسماعل اسلمي*
فلسفة العبادات في الإسلام تتوخى تحقيق ثلاثة مقاصد في شخصية الإنسان المسلم هي:
مقصد التطهير( تزكية النفس) و مقصد التطعيم ( تغذية الروح ) ثم مقصد التلطيف أو التخفيف( ترقية الشعور ) بمعنى أن التّديّن الإسلاميّ في مجال التعبّد يتخلله تطهير و تطعيم و تلطيف على اعتبار أن الإنسان ينتمي لعالم الفساد ؛ و من الطبيعي أن يعتريه نوع من هذا الفساد لأنه معرّض للأمراض و المظالم و الانحرافات النفسية و الاجتماعية . و لهذا ، كانت الفرائض الربّانية منصبة في هذا الاتّجاه الذي يخدم النفس البشريّة بما يطهرها مما علق بها من فساد ، و يغذيها بما يقوّيها على مواصلة حياة التعبد رغم الإغراءات و الضغوطات و الإحباطات و الإكراهات . إذن، فأوامر الله تعالى لعباده تسمى فرائض و واجبات.أمّا التزامات العباد بها له فتسمّى عبادات و أمّا حياة التّعبّد فهي تعبير وجوديّ عن عبوديّة العبد لله وحده بالنيّة و القول و الفعل باستمرار .
1) مسألة التطهير: و ما دام الماء هو العنصر الأساس للبيئة الطبيعيّة ؛ و العامل الفعّال في عالم الكائنات الحيّة ” و ٓجٓعٓلْنا مِنٓ الْماءِ كُلّٓ شٓيْءٍ حٓيٍّ “[الأتبياء/ الآية 30] فقد عدّه الإسلام المطهّر الأوّل للبيئة الحيويّة مركّزاً علىٰ الإنسان ” وٓ يُنٓزِّلُ عٓلٓيْكُمْ مِنٓ السَّماءِ ماءً لِيُطٓهِّرٓكُمْ بِهِ” [ الأنفال، الآية11] ثم عدّ التطهير به أهم شرط في ممارسة أغلب العبادات كما وظّفه مصطلحاّ تربويّاً ليتّسع مدلوله في ميدان النّفس و الاجتماع حيث جعله مرادفاً للتزكية و مفهوماّ مؤسّساً لمعاني التربية.
إنُنا نتلمّس في ثنايا الآيات القرآنية و الأحاديث النّبوية التي تتعلّق بالعبادات ما يدلّ على فكرة التطهير حيث نستشفّ من عبادة الصلاة التّوسّل لتطهير اللسان من القول الساقط الذي لا تستسيغه الآذان، و لا يرتاح له الجنان ثمّ لتطهير الأعضاء من الفعل الهابط الذي ينكره الطبع و الشرع و الوضع ” إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ “[العنكبوت /الآية 45] كما عُدّت الصلاة في الحديث الشريف بصيغة التشبيه التمثيلي استحماماّ باطنيّاً تغسل فيه النّفس كي تنقّىٰ من الخطايا مثلما يغسل البدن في الحمّام لتزول منه الأوساخ ” أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْراً بِبابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرّاتٍ ؛ هَلْ يَبْقىٰ مِنْ دَرَنِهِ شٓيْءٌ ؟ قالوا : لا يَبْقىٰ مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ ! قالَ :فَذَلِكٓ مِثْلُ الصَّلَواتِ الْخَمْسْ يَمْحو اللهُ بِهِنّ الْخَطايا”.
كما تعدّ عبادة الصيام وسيلة لتطهير الشعور
و الضمير من زوائد الانشغال و الاهتمام ، و تنظيف البدن من بقايا الدهون و فضلات الطعام ، و تنقية الدورة الدموية و تصفية الجلد و تمرين العظام ؛ و تخسيس الغدد و العضلات مما زاد فيها من ترهّل و تكتّل و اشتحام ؛ فقد ورد في الأثر عن شهر الصيام ” جاءكم الطاهر المطهّر” .
أمّا الزكاة فهي أيضاّ وسيلة لتقليم أظافر الأنانية لدىٰ الإنسان و لتطهير غريزة التّملك فيه من الجشع و الطمع و حبّ المال أكثر من اللازم لدرجة تجعله يرتبط به ارتباط اللحم بالدم بحيث يكون غير قادر على السخاء أيّام الرخاء فما بالك بأيام الشدة و الضراء ؟! و لا ينفكّ من ربقة البخل و التقتير حتى تنتشله قوة قاهرة أو يؤخذ بعض منه عنوة كي يتعوّد على العطاء مع مرور الأيام ليحس بنوع من التحرر النفسي من قيود الأوساخ المادية التي علقت بنفسه وزادت عن الحد المتاح مثل زوائد الأظافر و الشحوم ” خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكّيهِمْ بِها “[ التوبة/ الآية 103]. و أمّا الحج فهو وسيلة أخرى لتطهيره زمكانيّاً و ذلك بانسلاخه من الغلاف الجوي المعتاد ليلج في فترة معيّنة غلاف الطهارة ” وٓ طٓهِّرْ بٓيْتيٓ لِلطّائِفينٓ وٓ الْقائِمينٓ وٓ الرُّكّٓعِ السُّجودِ” [الحج /الآية 26] و كأنه في هذه الحال يخلع ثياب الذنوب السوداء ليرتدي لباس التقوى بدليل أن الحاج يرتدي لباس الإحرام الأبيض تعبيراً عن الانسلاخ من سواد الذنوب إذْ يتجرد من زينة الحياة الدنيا و ينسلخ من علائق القرابة ، و يهجر وحشة الخلق إلى الأنس بالحق تمهيداً للهجرة الأبدية. و بعد خروجه من رحم المكان المقدس يكون كمن خرج من رحم أمه بلا ذنوب طاهراً مغفورا له ؛ يتأكد معنى ذلك من الحديث النبويّ الشريف :” مَنْ حَجَّ وَ لَمْ يَرْفُثْ وَ لَمْ يَفْسُقْ ، رَجَعَ كَيَوْمٍ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ” .
هذه الصيغ القرآنية و النبوية تدل على فكرة التطهير في مجال التعبُد؛ ذلك هو المقصد الأصيل من هذه العبادات .
2) مسألة التطعيم :
ثم ننتقل إلى المسألة الثانية ؛ مسألة التطعيم انطلاقا من هذه الآية ” وٓ تٓزٓوّٓدوا فٓإِنّٓ خٓيْرٓ الزّادِ التّٓقْوىٰ”[ البقرة / الآية 197] مع أن التقوى مشتقة من الوقاية لأن الوقاية هي الحذر من الوقوع فيما يؤذي و يضر بالنفس معنوياً و مادياً باتخاذالتدابير و الإجراءات اللازمة و لكن السياق القرآنيّ عدّها هنا زاداً نوعيّاً لأن التغذية لا يظهر أثرها جيدا إلا بعد التنقية بحيث لا تستطيع أن تستفيد من الدواء إلا إذا كان جسمك خاليا من السموم الجرثومية أو الكيماوية كما لا تستلذ و تنتفع من الطعام الطيب إلا إذا كان الصحن نقيا أو تستمتع بالشراب العذب إلا إذا كان الكأس صافيا. و لهذا قدّم علماء التربية من المسلمين التخلية على التحلية ، و من هنا تأتي مسألة التطعيم في المرحلة الثانية بعد مسألة التطهير؛نستكشف هذا الترتيب من خلال سياقات القرآن و الحديث ” إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ” لكونها تطهرك من هذه الرذائل و تجعلك تتخلى تدريجيا عنها كما يغذيك الذكر و يحليك بالفضائل ” وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ”[ العنكبوت/الآية 45] يؤكد ذلك الحديث الشريف”إِذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعواقيلَ:وَ ما رِياضُ الْجَنَّةِ؟ قالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ” …و هناك آيات و أحاديث يمكن لك أن تستنبط منها مفهوم التطعيم أو التحلية لكن المقام لا يتسع هنا لذكرها.
إذن، فالذكر يدخل في مجال التغذية الروحية إلا الاستغفار فهو يلحق بالعبادات لأنه طلب للمغفرة مثل طلب العفو”:اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنّي”و لهذا، كان الاستغفار مقدما على الأذكار الأخرى من حيث الترتيب مثل الوضوء بالنسبة للصلاة و الحج و أمّا التوبة فهي مثل الطهارة من الحدث الأكبر .
إن الأذكار -بصفة عامة – تعد مواد غذائية للروح ؛ تقوي بها جهاز المناعة لمواجهة جراثيم الشياطين و فيروسات إبليس ؛ فأنت تنتقل من مكافحة الميكروبات المادية الظاهرة بالوضوء و الطهارة إلى مكافحة الفيروسات المعنوية الباطنة بالعبادات و الأذكار و الأدعية. هذا هو المقصد الثاني الذي يتحقّق تٓبٓعاّ للمقصد الأول.
3) مسألة التلطيف أو التخفيف :
ثم ننتقل إلى مسألة التلطيف في مجال ترقية الشعور إذ أن المسلم يترفع بسلوكه عن دنايا الأقوال و الأفعال حتى لا يشغل ذهنه بسوء الظن أو التفكير في مزاولتها لينميّ إحساسه الطيّب و يقويّ من طاقة شعوره الإيجابية فيملأ فراغه بالنوافل كما يتوجّه إلى الله تعالى في كلّ أحيانه سيما إذا ضاقت به الأرض أو كان يعاني تحت الضغوط أو يحس بالخوف أو يشعر بالحزن ؛ فقد كان الرسول ( صلىٰ الله عليه و سلّم ) إذا حزبه أمر ، فزع إلى الصلاة حتى لا يظلّ متعلّقاً بالدونية أو مشدوداً بالضّائقة كي يتسامىٰ بنفسه و يرتفع بحسّه و ينسلخ من مربّع المشاكل و دائرة المشكلات حيث المطلق إذ يطلق لنفسه العنان كي يفكّر بطلاقة و استرسال عن وعي تامّ و شعور راق أو على الأقل يتجرّد من تبعات الحياة على مستوى الإحساس السلبي ؛ و لهذا، كان النبيّ( صلى الله عليه وسلم) يقول لبلال(ض) عن الصلاة غير ما مرة ” أَرِحْنا بِها …”
و المسلم عندما يتصدق ، يحس بنوع من الارتياح الذي يحصل له بمؤاساته الآخر؛كما يجرّب محنة الجوع في بعض أيّامه على فترات مختلفة ليترفع مؤقتاً عن الإحساس الفزيولوجي نحو تنمية طاقته الروحانية مع تحسّس آلام الجوعىٰ لأنّ الألم من الانضباط بمواعيد أدائها و الحرص على استيفاء شروطها و توفية أركانها باهتمام بالغ ثم حرمان الجسد مما زيد عن الطيبات لضبط فرامل الشهوات أو تفاديا للوقوع في الحرام و الشبهات ثم تأديب النفس بالكفاف و العفاف حتى لا يسيل لعابها طمعاً في الغير؛ و معاناتها من قصّ أطراف التملّك غضّاً للتفكير في السّطو أو التّسلط و خدمة للآخر ثم خلخلة المشاعر من االاستيطان في بقعة معيّنة حتى لا يوحى للنفس بالخلود على حساب الجنس الآخر”أَخْلْدَ إِلىٰ الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ”
[الأعراف، الآية 176].
إذن، هناك معاناة نفسية و بدنية و وجودية تجعل المسلم بممارسة هذه العبادات أقدر على ضبط النّزوات و التحكّم في الرغبات ثم أكثر تحمّلاً للصدمات و أكثر تحديّاً لمواجهة الضغوطات احتساباّ لله تعالى و ابتغاء مرضاته “حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكارِهِ وَ النّارُ بِالشَّهَواتِ”.
و زيادة على ذلك ، فإن تطهير النفس بالتعبّد يعقبه نوع من الراحة و الاستجمام مثل الرياضيً الذي يمارس رياضته بانتظام ثم يدخل الحمام للاستحمام فيخرج منه نقيا مرتاحاً و نشيطاً ؛ يحس بنوع من الاستعلاء النفسي و يشعر بالتسامي الروحي ” وَأنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مِؤْمِنينَ”[آل عمران، الآية: 139]
* إسماعيل اسلِمي أستاذ علوم و آداب اللغة العربية بالمغرب سابقاً.
أستاذ سابق بكلية العلوم الإنسانية بفرنكفورت/ألمانيا.