شرعنة الفوضى اللغوية
فؤاد بوعلي
نشرت إحدى الجرائد المغربية خبرا يقول بأن محكمة الاستئناف بالرباط أصدرت حكما يقضي ببطلان إنذار مكتوب باللغة العربية موجه إلى سيدة تحمل الجنسية الفرنسية، بدعوى أنها تجهل اللغة العربية.
والواقع أن هذا الحكم ينبغي ألا يقرأ في إطاره القضائي القانوني الضيق بل في سياق شرعنة الفوضى اللغوية التي انتقلت من مستواها العرفي في الشارع والإدارة إلى مستوى قانوني منصوص عليه في الوثائق والمواد القانونية. فإذا كان الدستور، في فلتة تاريخية “ندم” عليها أصحابها فيما بعد، قد تحدث عن اللغتين الرسميتين وعن مجلس للغات ينظم ويدبر السياسة اللغوية للبلد بحيث تأخذ كل لغة رسمية وظيفتها الطبيعية في التخاطب الرسمي، فإن الإصدارات اللاحقة تبرز أن سادة الشأن العام ماضون في ترسيخ الفوضى والتسيب اللغويين. فبعد القانون الإطار ومذكرات التنزيل التي تضرب كل نصوص الدستور وثوابت الدولة والمدرسة العمومية، والحرب على العربية في الشارع والإعلام والمؤسسات الرسمية، ومع الهيمنة الفرنكفونية الواضحة على مقدرات البلد الثقافية والعلمية والاقتصادية، يأتي هذا الحكم ليضيف ثلما جديدا في جدار السيادة اللغوية للبلاد. فإن كانت اللغة الرسمية يقصد بها في تعريف اليونيسكو: “اللغة التي يشير إليها الدستور، وتنظمها القوانين داخل دولة أو ولاية أو إمارة أو منظمة كيفما كان نوعها، وتفرض في جميع المجالات الرسمية للدولة من قبيل مؤسسات الحكومة والإدارات والشأن العام” (اليونيسكو1983 ،ص1) فإن هذا الحكم الغريب والمثير يدعونا إلى طرح مجموعة من الاستنتاجات:
بني الحكم، عن وعي أو غير وعي، على فرضية التماهي بين اللغة والحق الفردي الذي تعتمده دول مثل كندا. حيث الدولة ترضخ للمطالب اللغوية للفرد، فعلى المرفق العمومي أن يتعامل مع الفرد بلغته الشخصية (فرنسية أو إنجليزية). وهذا يعني أنه على الدولة التعامل مع كل المواطن بلغته الخاصة. فهل هذا هو اختيار الدولة المغربية أم أنه مجرد اجتهاد قضائي محصور في حالته الخاصة؟ الجواب يحدد الوجهة.
كل الدول تتعامل في تدبيرها اللغوي واختيار لغة التعامل والتواصل مع المواطن الذي يحمل الجنسية الوطنية للدولة وليس مع المقيم. فالدولة التي تحترم نفسها وسيادتها تجعل المواطن هو صلب السياسة اللغوية، لكن الحكم غير المعادلة في زمن الفوضى حيث غدا المقيم الأجنبي هو الذي يحدد طبيعة السياسة اللغوية ويرسم معالمها. مما يعني أننا أمام حالة ارتهان لغوي للآت من خارج الوطن.
بناء على ذلك فباعتبار اللغة عنصرا من عناصر التدبير السياسي للدولة يمكننا استنتاج أن الذي يحدد سياسة الدولة ومشاريعها وإجراءاتها ليس المواطن المغيب فعلا وقوة بل هو الأجنبي. لذا يفرض على المقاولات المغربية أن تكون في خدمة الأجنبي وليس المواطن.
الحكم ينقض الحكم السابق الذي أجبر ادارة الضرائب تعريب وثائقها بعد دعوى قضائية تقدم بها النقيب عبد الرحمن بن عمرو للمحكمة الادارية بالرباط. كما سبق للمحكمة الإدارية إلغاء قرار لوزارة الصحة بالمملكة كُتب باللغة الفرنسية، معتبرة في استخدام اللغة الفرنسية من قبل الإدارات الحكومية، عملاً “مخالفًا للدستور” .وجاء في نص الحكم : إن “القرارات الإدارية المحررة باللغة الفرنسية تعد غير مشروعة، لأنها مخالفة للدستور، ومشوبة بعيب المخالفة الجسيمة للقانون، ومآلها الإلغاء من طرف القضاء الإداري. “.فهل هذا تناقض في الأحكام القضائية أم هو تراجع ونكوص أم تطبيع مع مسار فرض الفرنسية في الواقع المؤسساتي المغربي؟
وأخيرا هل إن كان هذا الأجنبي من أي دولة ينبغي أن يخاطب بلغته الخاصة أم أن الأمر خاص بالفرنسيين؟ فالمغرب بحكم انفتاحه على العالم تقيم فيه العديد من الجنسيات من إفريقيا وآسيا وأوروبا، فهل يعني أننا ينبغي أن نخاطب كل واحد بلغته فنغدو أمام فسيفساء لغوية غير محدودة ولا قابلة للحصر؟
إن خطورة هذا الحكم تتمثل في أن القضاء كان على الدوام قلعة الدفاع عن التعريب والعربية، ومع هذا المستجد نكون قد محونا تاريخا طويلا من العمل القضائي، حيث ينتقل بنا الحدث من مرحلة التعامل العرفي مع الفوضى اللغوية إلى الشرعنة والتقنين والانتصار للوبي الفرنكفوني ضد كل ثوابت الدولة الهوياتية.