جرادة …ومعلمة….سوق الحد
شحلال محمد
كان السوق الأسبوعي لمدينة ،،جرادة،،ينعقد في الماضي،يوم الأحد ،مما جعل هذا التوصيف،يتحول إلى تسمية شائعة بين الناس: سوق ،،الحد،،.
كان هذا السوق معرضا حقيقيا، تلتقي فيه القوى الشرائية قادمة من جل جهات المنطقة الشرقية ،أملا في الظفر بنصيب من عائدات ،،الكانزينة،،التي تترصدها أفواه عديدة.
وهكذا،وإلى جانب الخضر والفواكه،فإن جل التجار ،كانوا ينصبون خيامهم لعرض كل أصناف السلع التي يقل تداولها خارج يوم السوق.
كان بعض التلاميذ والشباب عموما ينتظرون يوم السوق بشغف،لأنهم يجدون لدى معظم الباعة ،،منصب بائع مساعد ،،يدر عليهم بعض العائدات التي تغطي مصاريف السنيما ،وبعض المقتنيات التي لا يطالها راتب الأب المتواضع.
لقد تمكن معظم هؤلاء الشباب من ضمان عملهم الأسبوعي بعدما حظوا بثقة التجار،مما مدد عقد العمل غير المكتوب، لسنوات بالنسبة للعديدين منهم.
كان السوق يضم أروقة متعددة لعلها تستحق وقفة خاصة،لكن الذي كان يستهويني في هذا الموعد الأسبوعي مثل العديدين من أمثالي،هو،،جناح المعرفة،،الذي احتكره رجل حسن السمت،كان يتجشم عناء التردد على مدينتنا بشكل منتظم، ليعرض مجموعة من الكتب في مدخل السوق.
كان تاجر المعرفة هذا،قد تجاوز العقد الخامس،ويتميز بمظهر يجلب الوقار.كان يلبس سروالا عريضا من الطراز المتداول عند جيراننا ب،،تلمسان،،وغيرها من مدن الجزائر،تزينه قطعة،،الجيلي،،التي تتناغم معه في اللون،ليزدان،،اللوك،،بساعة الجيب التي تتدلى سلسلتها اللامعة،إلى أن يكتمل المظهر بمعطف أنيق ،ينسدل عليه جزء من عمامة الوقار الذي تطبعه نظارتان طبيتان.
لا أذكر اسم الرجل الذي اختار تجارة عرض المعرفة عن جدارة،ذلك أنه كان متعلما وملما بعناوين الإصدارات قديمها وحديثها.
كانت كتب جبران خليل جبران والمنفلوطي ،تشغل الحيز الأكبر من معرض الكتب الصغير،إلى جانب روايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغيرهما،كما كانت مجلة،،العربي،، من المنشورات التي يكثر عليها الإقبال،لا سيما وأن معظم الأساتذة من طينة أستاذ الأجيال،السيد خرماش،كان يشيد بمحتوى هذه المجلة ويدعو إلى قراءتها.
كان التنافس على أشده بين التلاميذ للظفر بأعلى نقط الإنشاء،لذلك أصبح الإقبال على معرض،،المعرفة،،لسوق الحد،،يعرف رواجا كبيرا.
كنا نوفر قطع النقود الصفراء التي ينفحنا بها الآباء والإخوان يوم،،الكانزينة،،لنتمكن من شراء رواية يروج لأحداثها الحالمة،أو كتاب،،النبي والمجنون وباقي ما في قائمة جبران الغارقة في الرومانسية والخروج عن المألوف !
وإلى جانب الكتب التي كانت تعتبر وسيلة لتمنية المدارك،فإن المعرض كان لا يخلو من صنف آخر من الكتب التي لها عشاقها.
إنها كتب الرسائل التي يقبل عليها العشاق المبتدئون، ليختاروا منها أو يحوروا ما يمهد الطريق نحو القلوب التي تؤرقهم !
كانت فترة الستينات والسبعيات من القرن الماضي ،قد حولت صاحب معرض الكتب إلى معلمة حقيقية في سوق ،،الحد،،ذلك أنه كان يقدم،،مونوغرافيا،،المعرفة وينصح بقراءة المؤلفات التي تخدم كل فرع من فروع المعرفة.
وإلى جانب الكتب،فإن الرجل الوقور،كان يسوق صور الزعيم جمال عبد الناصر، الذي كان بعض الناس يحرصون على تأطير صورته وتعليقها في المكان اللائق بهذا،،الخطيب المفلق،،الذي أنسى الشعوب العربية في زعاماتها،حتى كانت نكسة حزيران !
عندما أحبط جمال عبد الناصر،وصدمت الجماهير العربية،وجد صاحب المعرض نفسه يساهم في تهدئة الخواطر، عبر ترويج صور العندليب الأسمر وكوكب الشرق،لينتقل اهتمام الشباب تدريجيا من مراكمة المعرفة،إلى الافتتان بعوالم النجومية التي صنعتها الأفلام المصرية،والتي وظفت فيها أصوات غنائية لامعة !
كان اقتتاء كتاب واحد يتيح لنا قراءة كتب عديدة بفضل،،سياسة تبادل المعرفة،،! ألم يقولوا قديما : لولا الفقراء لضاع العلم؟
كنت ممن يواظبون على زيارة معرض الكتب بسوق الحد،وكان حظي من ذلك في جل الحالات أن اقتصر على حفظ العناوين والمؤلفين ،في انتظار أن يجتمع لدي ثمن الشراء،فإذا اقتنيت الكتاب،أنساني في اللباس والطعام ،حيث أتماهى مع الكاتب حتى أحفظ العديد من الفقرات التي تستهويني.
غادرت مدينة جرادة مع مطلع السبعينات،وتركت الرجل الوقور يواظب على تلبية رغبات هواة المعرفة،ولا أدري أين انتهت به رحلة الحياة،لكني أسأل الله أن يكتبه عنده من عباده الفائزين برضاه،فقد كان فضله على الأجيال كبيرا، وتحية لمدرسينا الذين غرسوا في نفوسنا حب الاطلاع.