نوستالجيا: في الطريق إلى العيون
بقلم: إدريس الواغيش
بدأت مشواري المهني كمدرس في 1983 بمدرسة “أكرض نوالوس” بجهة سوس في أقاصي تارودانت، وعمري تجاز بالكاد الواحد والعشرين ربيعا، وكان لزما عليّ أن أتعايش مع جبل “أولكو”، ثم أصبحنا صديقين مع مرور الوقت. كان هذا الجبل هو أول ما تراه عيني حين أفتح باب البيت في الصباح وهو آخر مشهد أختتم به يومي حين أغلقها من ورائي في المساء. وكم مرة قفت شاردا أشكو إليه غربتي، حين أكون وحيدا وأخلو إلى نفسي. كان هذا الجبل الأحمر ينتصب أمام المدرسة التي اشتغلت بها، يعرفني وأعرفه، ونتواصل بيننا من دون كلام. أتذكر أن الثلج كان يزوره مرتين في السنة، وكنا ننتشي جميعنا ببياضه.
اختار الجيش المغربي أن يكون له رادارا عسكريا يجثم فوق قمته، كونه كان آخر مجموعة صخرية تنهي امتداد سلسلة جبال الأطلس الصغير، ولا يوجد جبل يفوقه علوا، قبل أن تبدأ سطوة الصحراء وتبسط جبروتها كلما اتجهنا شرقا نحو طاطا أو “فم زكيد” وجنوبا نحو الساقية الحمراء ووادي الذهب، وصولا إلى شبه جزيرة الكويرة في أقصى الجنوب. كان صديقي الجبل “أولكو” أصلع القمة وحاد الحواف، يشكو طول السنة من عُري تام، لا خضرة فيه ولا شجر، يطل في صمت الشيوخ على انبساط واحات طاطا وصفرة كثبانها الرملية، ولا يفوق علوه في جغرافية المنطقة الجنوبية سوى الأقمار الاصطناعية التي تطير في الفضاء. وكنا نسمع هدير المروحيات العسكرية تزوره من حين لآخر، كانت تتراءى لنا من بعيد وهي تحلق فوقه بلونها الترابي، ولا تمكث فوقه سوى ساعات قليلة، قبل أن تطير إلى وجهة لم نكن نعلمها. سيتبين فيما بعد أن الأمر يتعلق بتقنيين ينتمون للهندسة العسكرية يقصدونه للإصلاح، كلما حل به عطب تقني بعد مرور عاصفة شتوية أو هبوب رياح هوجاء.
حدث أن وصلنا إليه أول مرة بالصدفة، ثم بدأنا نقصده من حين لآخر، أنا وصديقي الجيلالي، حاملين معنا الراديو لما تبين أول مرة، ونحن بالقرب منه، أنه يوفر إمكانية الاستماع بشكل جيد إلى المحطات الإذاعية الشهيرة الناطقة بالفرنسية والعربية مثل: إذاعة باريس، لندن، موسكو أو صوت ألمانيا (دوتشه فيله). وكان يحصل لنا الكثير من التعب والإرهاق أثناء الصعود، لأن الوصول إلى القمة يلزمه رشاقة الماعز وخفتها أو حوافر الغزلان، إذا أردت تفادي السقوط وتجنب رؤوس الصخور المسننة المنتصبة في كل مكان، وهي قادرة على تمزيق جلد الأحذية وإدماء الأرجل مع أي خطوة خاطئة. وكان الصعود إلى قمته يكلفنا بذل مجهود بدني استثنائي ومشقة ما يناهز الساعتين من الارتقاء عموديا قبل الوصول إلى القمة مع ما يتطلب ذلك من عزيمة وصبر، وكأننا نصعد سلما إلى السماء وليس جبلا.
بدأ الخوف يراودنا من أن تكون أجهزة أو كاميرات تراقبنا، والشك يعترينا في أن يكون في الأمر ما يعرضنا لمساءلة قانونية في الاقتراب من منشاة عسكرية هامة، والمغرب يعيش في حرب ضروس مع أعداء وحدتنا الترابية وزمنا رصاصي اللون في الجبهة الداخلية، وهو ما دفعنا إلى الإعراض نهائيا عن الاقتراب من مدار الرادار، وقد أكد لنا أحد الإداريين في مركز إغرم أن الرادار مراقب إلكترونيا من قاعدة عسكرية في نواحي مراكش.
كان كل أسبوع يأتي فردان من القوات المساعدة من مركز “إغرم” في عملية تناوبية ويقوما بحراسة شكلية للرادار، لأن الوصول إليه لم يكن سهلا وغير ممكن في أقل من ساعة صعودا، وماذا يضيف أفراد القوات المساعدة إلى حمايته في هذه الحالة وهم يحملون بنادق أقرب إلى بنادق صيد مع خمس رصاصات من العيار الصغير. وكانت هذه العملية تمكننا من التعرف كل أسبوع على فردين جديدين من رجال القوات المساعدة، وبحكم أن الإنسان اجتماعي بطبعه، كانوا يتواصلون معنا كأساتذة، وإن لم يكن ممكنا التواصل معهم جميعا بنفس الحميمية، كان فيهم ككل البشر الانطوائي والاجتماعي والمتعصب للعرق، وربما كانت تعطى لهم تعليمات بعدم مخالطة المعلمين من مسؤوليهم حرصا على صفاء تربيتهم الإدارية أو الشبه عسكرية التي تدربوا عليها أو تعودوها في ممارستهم العمل الميداني، ومع ذلك كان بعضهم يزورنا في البيت والمدرسة، ونلعب كرة القدم في ملعب كنت قد وسعت أرضيته وهيأته من مالي الخاص. قد أكون خانتني الذاكرة ونسيت بعضا من أسامي هؤلاء، ولكنني لازلت أحتفظ بملامح أغلبيتهم، وتتراقص أمام عيني مع ذكريات جميلة قضيناها معا. ومن بين هؤلاء أحدهم يسمى الشرقاوي. كان أسمر اللون، قوي البنية، بدين الجسد، ولكنه كان مرحا، خفيف الظل، يمتلك روحا محبوبة عند الجميع وصاحب دعابة ونكتة. كنت أقول لصديقي الشرقاوي مازحا:
– أنا جبلي وأنت صحراوي، وكلانا “مغنان”، وبالتالي لن يحصل أي تفاهم بيننا”.
وكان يرد عليّ باسما أن هذا السبب هو عامل قوي لنتفاهم أكثر، لأننا “مغنانين بجوج”، وبالتالي كان الأقرب إلى نفسي، لأن كلانا كان يمتلك حسا بدوي الطبع، وكذلك عفويته وبساطة أهل الصحراء فيه قربته مني أكثر. كان الشرقاوي ينحدر من إقليم الراشيدية، وهو نفس الإقليم الذي جاء منه صديقي الجيلالي الذي يدرس معي في المدرسة، مع فارق في كون الجيلالي أمازيغي وهو عربي، ولكنهما يشتركان معا في سمرة أهل الصحراء وصلابة أهلها وصدقهم. ذكر لي صديقي الشرقاوي أنه حين استعرت نيران الحرب في الصحراء وعلت في سماء أقاليمنا الجنوبية، نقل الفوج الذي كان يتدرب معه على عجل من ثكنة للقوات المساعدة بسيدي إفني إلى أتون الصحراء، قبل أن يكملوا دورتهم التكوينية على حمل السلاح، كي يخوضوا أم المعارك دفعة واحدة في أمغالا وجبال الوركزيز والسمارة وتيفاريتي وغيرها، كانوا يتنقلون باستمرار، كلما طلبت منهم القيادة ذلك دفاعا عن وحدتنا الترابية في مواجهة عصابة البوليساريو الانفصالية. وكان يحكي لي عما سمعه من الجنود عن معارك أخرى لم يخضها وقعت مع البوليساريو في الحوزة وأم دريكة وكلتة زمور، ويروي لي عن أهوال الحروب الطاحنة فوق رمال الصحراء المتحركة. كان يضعني باختصار وجها لوجه أمام بشاعة بعض الصور من معارك تقشعر لها الأبدان، حتى أن الدموع كانت تغلب كبرياءه أحيانا، يحبس أنفاسه ويبكي في صمت، ثم يمسحها ويواصل الحديث حين يلتقط شتاتها. وكان فخورا بما فعله من أجل الوطن، ويحلو له أن يروي عن حكاياته مع الحرب بصدق المحارب المغربي الشرس، وكنت بدوري أستمع إليه باهتمام المغربي الغيور على وحدة الوطن. ولأننا أيضا كنا نعيش أحداث حرب الصحراء عبر الإعلام ومحكيات الضباط الجنود، كما لو أننا كنا نخوضها إلى جانبهم، ولا أعتقد أن أسرة أو عائلة مغربية لم يسل أحد أفاردها دمه فوق رمال الصحراء. كنا نتابع الأخبار أولا بأول من كل المصادر، ونستمع إلى محطة كانت تبثها إذاعية للبوليساريو تذكر فيها مواعيد هجومها على مدن ومراكز ودواوير الشريط الحدودي، بما فيها الدوار الذي كنت أدرس في مدرسته، ولكن ما كان يعذبني أكثر هو سماعي لتصريحات بعض الجنود المغاربة الشباب المنحدرين من مدن ودواوير كنت أعرف عائلاتهم بالاسم في تاونات وغيرها، وأتألم حين يجبروهم على سب الوطن وشتم رموزه، ويعدوننا كمغاربة بالتحرير من الطغاة، هكذا…!
ولكن رغم صغر عمرنا، ونحن يومئذ لم نكن قد تخطينا العقد الثاني إلا بقليل، إلا أننا مع ذلك كنا قد نضجنا مبكرا واكتسبنا ما يكفي من مناعة وفهمنا اللعبة جيدا، ولم نعد نثق فيما نسمعه من أكاذيب وبهتان، ولكن كنا نتحسر بشدة على خيرة شبابنا من الجنود وهم يموتون أو يعتقلون في سجون الانفصاليين بمخيمات تندوف. كان يحكي لي صديقي الشرقاوي عن أفراد عصابة البوليساريو وتحملهم رغم بنيتهم الجسدية النحيفة، وعدم إدلائهم بأي معلومة أثناء الاستنطاق بعد الأسر. ولكن أهم ما علق بذاكرتي حتى اليوم، هو ما رواه لي ذات جلسة صفاء، قائلا:
-قضينا في معركة أمغالا ثلاثة أيام ونحن منبطحين في الخنادق، نكتفي بأكل معلبات السردين ونقتصد في شرب ما معنا من ماء، وأي واحد رفع رأسه منا أو منهم نهايته معروفة وموته محتوم ومحقق. ثم ينهد ويضيف قائلا:
– أذكر أن المعركة طالت، هم في الجبال ونحن متمركزين في الخنادق، كل واحد منا يرقب الآخر ويده على الزناد، أي خطوة غير محسوبة معناها الموت.
وبعد أن يأخذ أنفاسه، يضيف دون أن أسال:
– كان أحد أصدقائي من الجنود المحببين إلى قلبي منبطحا إلى جانبي بالخندق، تحرك من مكانه لغرض لا أعرفه، وإذا بأشلائه تتطاير أمام عيني، لم يبق منه شيئا وعوضت مكانه حفرة عميقة، حينها صرخت وهممت واقفا ورجلي ينزف دما. حرني جندي مغربي بسرعة من ثيابي إلى الخندق، وما هي إلا ثانية حتى اهتزت بنا الأرض، سقطت قذيفة أخرى بالقرب مني. وبقينا على تلك الحال إلى أن تدخل الطيران الحربي المغربي وقضى على كل من يقف خارج الخنادق، وبذلك تحررنا من أسر الفنادق وضيقها ولهيب حرارتها. انسحب العدو في الليل تحت جنح الظلام من مسالك لم يكن الجيش المغربي يعرفها، ولكن أسرنا وقتلنا عددا كبيرا منهم. لم نكن نعرف الرتب العسكرية إلا بعد انتهاء الحرب، وحين هدأت وتم الانتهاء من جمع ما خلفوه وراءهم من أسلحة وجرحى، تم إحضار أسراهم، بدأنا نتدافع لأخذ الثأر منهم، ولكن الضباط المغاربة منعونا. تقدمت من ضابط ميداني في إصرار، وأنا أبكي صاحبي الذي استشهد أمام عيني، رجوته أن يسمح لي بضرب الانفصالي ولو ضربة واحدة، ربت على كتفي ومسح دموعي، كما لو أنني طفل صغير، وقال لي:
– لا تحزن يا بني، صحيح أن الجندي الذي مات كان صديقك، ولكنه كان أيضا ابنا بارا لرؤسائه ووطنه، ادع له الآن ولجنودنا الذين استشهدوا بالرحمة، هذا هو أكبر قصاص تأخذه لك من العدو.
وحين انتهى صديقي الشرقاوي من الحديث، عز علي وقد رأيت أن قواه قد خارت، يتصبب عرقا وكأنه خرج لتوه من المعركة، وكان عليّ أن أغير موضوعا بآخر، قلت له:
– يكفي، قم بنا نتجول بين الحقول قرب الوادي.
لأننا لو ابتعدنا عن الوادي، سنخرج إلى صحراء أخرى لا تقل سخونة، ولكنها صحراء صخرية وليست رملية. وكان صديقي كلما رأى حمرة جبل “أولكو” الأقرع المنتصب في شموخ أمام المدرسة يتذكر الحروب التي خاضها في رمال الصحراء، ويحكي لي عن طرائف وحكايات بطولية أخرى خاضها جنودنا الشجعان دفاعا عن وحدة الوطن. وهكذا بدأت أسمع لأول مرة في حياتي عن بطولات الغجدامي وكتيبة “السيزيام ريم” والكولونيل العبدي وخوف جنود الانفصاليين المرتزقة من شجاعته وبطولة جنود “الطروازيام ريم” التي كانت ترعب المرتزقة الانفصاليين. كان الشرقاوي يحثني في كل مرة نلتقي فيها على زيارة الصحراء أو مدينة العيون، حتى أصبحت زيارتها مسألة وقت بالنسبة إليّ. وفي إحدى عطل الربيع، بدل أن أيمّن شمالا قصدت الجنوب يسارا، اعتذرت لأصدقائي عن مرافقتهم إلى مراكش حيث كنا نفترق عادة، قبل أن يذهب كل منا إلى وجهته.
قصدت بداية مدينة تزنيت انطلاقا من إنزكان في اتجاه مدينة العيون، كانت الحرارة في مدينة تزنيت تتجاوز الأربعين درجة، بالرغم من أن الوقت لا يزال ربيعا. راودتني فكرة العدول عن إتمام الرحلة، ولكن لأمر خفي وجدتني متحمسا وسط تاكسي كبير في اتجاه كلميم. حرصت على أن أكون جالسا في المقعد الأمامي إلى جانب السائق، حتى لا يفوتني رؤية أي شيء، وما أن تجاوزنا قرية ثلاثاء الأخصاص، حتى استوقفتنا دراجات نارية من الحجم الكبير لرجال الدرك وأخرى للعساكر، أشاروا إلينا بحركة من أيديهم دون أن نفهم قصدهم، ولكن السائق تعود على مثل هذه الحركات، خرج عن الطريق وركن سيارته تحت لهيب الشمس. لم يكن فوق رؤوسنا من ظل يقينا من الحر إلا ظله، وإن كانت تتراءى لنا أشجار الأركان إلا أنها كانت بعيدة عن الطريق. وما هي سوى لحظات، حتى بدأت تصل طوابير طويلة من الشاحنات العسكرية المسطحة كبيرة الحجم تحمل فوقها مدرعات وشاحنات وجيبات وآليات محترقة نتيجة الحرب الدائرة في الصحراء، كنت أول مرة أرى بقايا الحرب، إن لم أكن أرى الحرب نفسها بأم العين. لم يكن يتعلق الأمر بما يروى في كتب التاريخ ولا بحكاياتها عن الحرب، إنها الحرب ومخلفاتها تمر أمامي. اقشعر بدني وندمت على فكرة المغامرة، كنت أول مرة أرى في حياتي شيئا مرعبا ومخيفا ومهيبا مثل ما رأيت من دون وساطات. كنت شاهد عيان على بشاعة الحرب وقذارتها، عرفت حينها أن الحرب ليست لعبة أو نزهة وتراشق بالبنادق، كما يحدث عادة في الأفلام، إنها دمار بنيان وإزهاق أرواح. سمعت سائق سيارة الأجرة يقول لأحد الركاب:
– سيحملونها إلى أكادير أو مراكش، وهناك سيعملون على إصلاحها وإعادة تدويرها، ثم يعيدون إرسالها إلى جبهات القتال.
وقفنا هناك ما يقارب الساعة في انتظار أن يكتمل مرور القافلة، إذا نزلنا من السيارة تحترق رؤوسنا تحت الشمس وإذا بقينا في السيارة تضيق علينا كراسيها، غرقنا في حمام من العرق الحار يتصبب من مسام أجسامنا، وكان شجر الأركان يتراءى لنا كالسراب، قريب على العين بعيد من أقدامنا. فكرت في الرجوع من حيث أتيت مرة أخرى، انتبه السائق إلى قلق حالي، وقال لي:
– ما بك يا ولدي، هل خفت…؟
أجبته مرتبكا:
– لا إطلاقا، ولكني أفكر في الرجوع إلى أكادير.
رد عليّ متنهدا:
– وقوفك في هذا الخلاء خطر عليك، لن تقف لك أي سيارة، وحافلات طاطا وكلميم لا يمرون في الصباح وبعد الزوال، والسائقون لا يخرجون من المحطة إلا بعد أن تمتلئ مقاعد السيارة، ولا أحد من الركاب ينزل في الطريق، انتظر حتى نصل إلى بويزكارن.
حين وصلنا إلى بويزكارن تذكرت صديقي الشرقاوي وطردت عني التردد، لم يعد من مجال للرجوع إلى الخلف، تفتحت شهيتي وعزمت على إتمام المغامرة، والاستمرار في السفر إلى العيون مهما كلفني الأمر. انطلاقا من بويزكارن تغيرت ملامح الجغرافيا، بدأت تظهر ملامحها أكثر قسوة، ازدادت الأرض انبساطا بين صفرة واحمرار، وارتفعت درجة الحرارة بشكل ملحوظ. أحسست حينها أن رحلتي الحقيقية قد بدأت، حتى وصلنا إلى مدينة كلميم. هناك لم يكن أمامي متسع من الوقت لأخذ قسط من الراحلة أو أخذ فنجان قهوة، إذ تلقفتنا سيارة أجرة كبيرة من نوع بيجو (404) عائلية بسرعة في اتجاه طنطان. ومع ابتعادنا قليلا عن المدينة، بدأت تبدو مروج شبه خضراء، فيها قليل من الماء ونبات شوكي صحراوي، يرعى فيها قطيع كبير من الإبل. قال لنا السائق أن ملكيتها تعود لرئيس البرلمان المغربي السابق الداي ولد سيدي بابا، وهو من أصول موريتانية مثل الصحافي المرحوم محمد باهي وآخرون ممن تشبثوا بمغربيتهم وتلك حكاية أخرى. وبعد ذلك، بدأت أرى منازل مهجورة لا ساكنة فيها وساحات مدارس فارغة لا تلاميذ أو أطفال يلعبون، سألت السائق:
– ما لي أرى هذه المدارس والدور فارغة…؟
أجابني السائق في برود:
– حين كثرت هجومات البوليساريو، وبدأوا يختطون السكان والأهالي لملء مخيمات لحمادة في تندوف، تم تجميعهم في مدن كلميم وطانطان حتى يسهل حمايتهم.
بعدها بدأت تظهر مصاعب الرحلة الحقيقية: عواصف رملية تعترض طريقنا، نقف ولا نعرف إن كان يومنا ليلا أو نهارا، وجهتنا شرقا أو غربا، انبساط رملي كلي حينا أو كثبان رملية رهيبة، (قال لنا السائق أنها متحركة تغير مكانها باستمرار)، حرارة مفرطة، امتداد طرقي مستقيم لا يريد أن ينقضي، صمت قاتل بين ركاب أغلبهم استسلم للسفر ونام وسيارة متهالكة بدون راديو ولا موسيقى. كانت تجربة سفر فريدة، تبدو المسافة أمامنا كالسراب وكأنها تتمدد وتصر ألا تنقضي، أحيانا كانت الرمال تغطي الطريق بشكل كامل وتمتد لمسافة طويلة لا يبدو أثر للإسفلت، حتى أنه يصعب إيجاده مرة أخرى لمن لا يعرف المنطقة أو الطريق. وحين لا تظهر الطريق، يقف السائق الهادئ الطبع ويتوجه بالقول مازحا لركاب أغلبهم نيام:
– من يدلني الآن على الطريق الآن؟ أرأيتم، يصعب الرجوع إلى الإسفلت مرة أخرى لمن لا يعرف المنطقة من السائقين، وقد يتعرضون للضياع بين هذه الكثبان الرملية…!
قبل طانطان، مررنا بوادي درعة، هو الذي درسنا عنه في مقررات الجغرافيا كأطول نهر في المغرب، كنت أراه أول مرة منكمشا بين هضبتين، قبل أن يتمدد عرضه حين يقترب من الشاطئ. وقفنا أمام حاجز أمني للقوات المساعدة قبل القنطرة، ومباشرة بعد اجتيازنا القنطرة أوقفتنا دورية أخرى للدرك الملكي، نزل السائق وتبادل معهم حديثا سريعا ثم انطلقنا في السير نحو طنطان. وهنا بدأ السائق يشرح لنا دون مقدمات كيف تمكن مرتزقة البوليساريو من الدخول إلى مدينة طنطان عبر وادي درعة بعد غروب:
– كانت الجرافات تشق الطريق في الوادي والأشجار المتراصة على جانبيه تحجبها عن المراقبة، تتبعها الشاحنات المحملة بالجنود والسلاح، وحين وصلوا إلى القنطرة قضوا على دورية صغيرة وشقوا طريقهم في جنح الظلام نحو طنطان، واعتقد الجنود المغاربة أن الأمر يتعلق بكتيبة مغربية في طريقها إلى المدينة، وبذلك اكتملت الخديعة حتى دخلوا طنطان غدرا.
– ولكن بتواطؤ مع بعض السكان الانفصاليين (يقول أحد الركاب بانفعال)، اختطفوا أطفالا وكل من هو قادر على حمل السلاح من الشباب والرجال ثم انسحبوا، ولما يكن المغاربة يعرفون مسالك الصحراء جيدا، وهناك بعض العائلات من ساكنة المدينة رافقوهم عن طيب خاطر إلى مخيمات تندوف.
وجدنا خيمة أخرى لدورية الدرك أو الشرطة العسكرية قبل بوابة المدينة الكبيرة للمدينة، قوس يشكله جملان واقفان بشكل متقابل، أخذ عسكري بطائقنا الوطنية واتجه بهما إلى خيمة منصوبة جنب الطريق، وعند الرجوع أعاد البطائق إلى أصحابها، فيما طلب مني أن أرافقه وحدي دون غيري من الركاب إلى الخيمة، قال لي:
– احمل حقيبتك وتفضل معي، الضابط ينتظرك…!
ازدادت شكوكي ومخاوفي وعظم ارتيابي، لماذا أنا من دون باقي الركاب، ونحن عشرة في السيارة وليس ستة، كما هو معمول به في باقي مدن المملكة…؟!. دخلت إلى الخيمة وبدأ استنطاقي من طرف الشرطة العسكرية، كان في الخيمة ضباطا لم أعرف رتبهم ومعهم ضباط صف، ولكن ما عقد وضعيتي أكثر هو أنني كنت أحامل مهنة طالب في بطاقتي الوطنية، وهي في حد ذاتها تهمة، لأن الجامعة المغربية في الرباط وفاس كانت تغلي وقتها بالإضرابات والاحتجاجات، وهو ما زاد من شكوك الضابط وأدخلني بدوري في متاهات الخوف، ثم إن السفر انطلاقا من كلميم جنوبا نحو العيون والداخلة في بداية الثمانيات لم يكن سهلا ولا ميسرا كما هو اليوم. اختلطت عدة سيناريوهات في ذهني، وبدأت أجيب عن أسئلتهم دون أن أدري بماذا كنت أجيب. سألني الضابط:
– أنت طالب…؟
أجبته بلا، وأنني معلم أدرس في تارودانت، هز رأسه وقال لي:
– جيد، صدقناك، وإن لم يكن معك ما يثبت ذلك، أين مقصدك الآن..؟
لم أقل له أنني قاصد مدينة العيون، تلعثمت وتذكرت سهوا أن ضابطا من العائلة يحارب في الزاك. كانت أمه تزورنا في البيت، وتحكي لنا عن ويلات الحرب وتنقل لنا أخبار أسماء معارفنا من موتى المعارف والقبيلة، ومنها بدأت أسمع عن مناطق عرفت معارك طاحنة في الصحراء مثل: آسا، الزاك، كلتة زمور، بوكراع، بئر إنزران وغيرها. ولسبب غامض لا أعرفه، لم أقل لهم أنني ذاهب إلى العيون، وحمدت الله أنني لم أفعل، لأنه كانت ستطرح عليّ المزيد من الأسئلة، وتتعقد وضعيتي أكثر. قلت له:
– جئت أبحث عن ضابط من العائلة، لم يتصل بأمه لمدة فاقت الشهرين، ولا تعرف إن كان لا يزال حيا أو ميتا، وهو وحيدها.
حين ذكرت لهم اسمه العائلي، بدأوا يتشاورون فيما بينهم، وطلبوا مني الانتظار خارج الخيمة، ثم خرج ضابط ونادي على الأول وعلى الثاني إن كانا يعرفان ضابطا بهذا الاسم. ومن حسن حظي أن ضابطا ثالثا بعثت به السماء إلي، قال له:
– نعم اسمع به، ولكنه ليس هنا بل في الزاك…!
نزل عليّ كلامه بردا وسلاما، حينها قال لي الضابط:
– اسمع يا بني، تبيت الليلة في طانطان، وغدا ترجع إلى كلميم، ومنها تذهب إلى الزاك، هناك يمكنك أن تسأل عنه.
دامت العملية ما يناهز الساعة إلا قليلا، وعند الرجوع إلى سيارة الأجرة وجدت السائق يغلي من الغضب، قال لي في حنق شديد:
– السائقون جاؤوا من ورائي ثم رجعوا إلى كلميم، وأنا أنتظرك…!
قلت له بلغة المنتصر:
– لا زلنا قريبين، يمكنك الاحتجاج على الضباط إن شئت، وليس علي…!
سكت السائق، ومن حسن الحظ أن حاجز الشرطة في مدخل المدينة لم يوقفنا هو الآخر كي يعطلنا أكثر. عندما وصلنا إلى طانطان، أفرغتنا السيارة وتشتتنا في وسط المدينة. تفاءلت خيرا في وجوه شباب يتكلمون بلهجة أهل “الداخل”، وسألت أحدهم عن محطة طاكسيات العيون، ابتسم وقال لي:
– قريبة، ولكن اليوم غير ممكن، تبيت الليلة هنا بأحد الفنادق بالمدينة وغدا يمكنك أن تسافر.
عاودني الإحساس بالندم، وشعرت مرة أخرى أنني تسرعت في المغامرة بزيارة العيون، كان شريط استنطاقي من قبل الضباط لا يزال طريا يمر في تسارع أمام عيني. تساءلت عن مصيري لو لم أهتد لمبرر موضوعي بحجة البحث عن ضابط من العائلة يخوض معارك على الجبهة. حجزت غرفة بفندق يتوسط المدينة، وخرجت أتجول في شوارعها، وعن أي شوارع نتحدث؟، شارعان رئيسيان طويلان متعامدان وكثبان رملية تتراءى جاثمة بصفرتها من بعيد كالبعير، حفر طلقات الرصاص لا تزال مرسومة على واجهة بعض المباني بعد هجوم مرتزقة الانفصاليين على المدينة، سلع إسبانية معروضة بشكل فوضوي على الأرصفة، مكبرات صوت تقليدية تصب موسيقى أمازيغية وأطلسية ممزوجة بأخرى حسانية عنوة في أذني. تبين لي أنه لا فائدة من التجول، وقصدت مقهى تتوسط المدينة بها حديقة صغيرة ونافورة أصغر مع تمثال حجري يمثل ما يشبه أسدا صغيرا. جلست وحدي تائها شارد الفكر، جاءني النادل وقال لي:
– الظاهر أنك تزور المدينة أول مرة…!
قلت له:
– ربما، ولكن كيف عرفت…؟
أجابني ومقلتا عينيه تلعبان في جمجمة رأسه، وهو يرقب شبانا عابرين:
– أحفظ سكان المدينة بالاسم…!
طلبت براد شاي بالنعناع، لم أستطب طعمه ثم طلبت مشروبا، اعتذر لي النادل، وقال لي:
– شاي اليوم ليس جيدا، ننتظر الصهريج ليزودنا بالماء الحلو غدا… ؟!
عرفت من أصدقائي فيما بعد أن ماء الصنابير لا يصلح للشرب، وهم يستعملونه لغسل الأواني وأشاء أخرى، وماء الشرب يشترونه بثمن رمزي من صهاريج تجوب الشوارع تجرها الجرارات. أديت الثمن وقمت أتجول عسى أكتشف شيئا جديدا في المدينة، وإذا بيد تقبض على كتفي. أغمضت عيني وتجمدت لحظة في مكاني، لم أستطع الالتفاف إلى الوراء، ظننتها دورية الشرطة العسكرية شكت في أمري وجاءت في طلبي، وإذا بي أرى صديقا للدراسة من البلدة، كان يعمل في إحدى المدارس الفرعية، ودخل إلى المدينة حين عمدت الدولة على تجميع السكان في المراكز والمدن لحمايتهم من الاختطاف، اطمئن قلبي، اتكأنا معا على سور وبدأنا نبكي بالدموع كالأطفال. كان هو يبكي من الغربة، وكنت أنا أبكي مما خفت منه، ولأنني أول مرة ابتعد كل هذه المسافة عن مسقط الرأس. قال لي صاحبي:
– ما أوصلك إلى هنا؟
قلت له:
– ذاهب إلى العيون.
قال لي:
– ولكنها بعيدا جدا…!
أجبته في إصرار:
– ولو، لا فائدة، قد عزمت.
طلب مني أن أمكث معه بعض الوقت في طنطان للتعرف على المدينة وعادات أهلها وأكل لحم الجمل، فوافقت. كانت سمعة طانطان أكبر من حجم المدينة، تتغنى بها الأسطوانات في أسواق المدن كما القرى، ولكنها كمدينة مجرد حفنة من دور أغلبها من مخلفات الاستعمار الإسباني، باستثناء بعض البنايات الحديثة كالإدارات الحكومية والعمومية التي بنتها الدولة المغربية في السنوات الأخيرة.
طانطان مدينة يقسمها الوادي إلى شقين: طانطان الأحمر شرق الوادي وطانطان الابيض غربها. وسبب التسمية يعود حسب ما قيل لي هناك إلى أن المدينة شرق الوادي تصبح حمراء بما تحمله معها العواصف من رمال حمراء، والجانب الأبيض يصبح كذلك حين يفيض الوادي ويترك طميا أبيض على الضفة الغربية. أذكر مرة ونحن رجوع من المدرسة حيث كان يعمل صديقي إدريس غرب المدينة في طانطان الأبيض، وكان لابد أن نقطع الوادي الجاف في أغلب شهور السنة، رأينا الناس تجري في كل مكان نحو الضفة الشرقية من المدينة، وصديقي يصر عليّ بأعلى صوته ويلح:
– إدريس، اجري، اجري…
بدأت أجري مثل باقي الناس حائرا من أمري، وعيناي تسترجعان صور ثقوب تركتها رشاشات وبنادق ميليشيات البوليساريو موشومة على واجهات بعض المنازل في طانطان، ونوافذ مهشمة لدور أخرى منغلقة على نفسها لا زالت تحمل ملامح الغدر والخيانة، تركها انفصاليو الداخل ممن فضلوا مرافقة مليشيات البوليساريو طواعية، وهم يحلمون بجنة الفردوس تنتظرهم في مخيمات لحمادة بتندوف سنة 1979، كما قال لي بعض الأهالي. استحضرت كل ذلك دفعة واحدة، وفكرت في أن الأمر قد يتعلق حتما بهجوم مباغت لميلشيات الانفصاليين، وحين كنت أسأل صديقي ادريس عما يحدث من حولنا، كان يجيبني:
– اجري واسكت…!
بدأت أجري وأنا ألهث، حتى قطعنا واديا جافا وعاريا إلا من زرقة السماء. قال لي ادريس:
– انظر، انظر…
بدأت أحملق إلى السماء، لم أر فيها شيئا، أصخت السمع، ولكني ما سمعت صوت طائرات ولا هدير دبابات أو آليات. وإذا به يأخذ بيدي، ويقول لي مرة أخرى:
– يا صاحبي، انظر هناك…!
حين نظرت إلى جهة الغرب، كانت كتلة ضخمة فيما يشبه السواد قادمة نحونا تعلوها حمرة قاتمة. اختبأ الجميع ولم يعد أحد يجري، كان الجميع قد أخذ حيطته واختار ملجأه. اختبأنا نحن ملتصقين مع باب أحد المنازل، وما هي إلا لحظات حتى وصلت العاصفة: حبات رمل وحصى يحدث عند ارتطامه بالأبواب ما يشبه صوت الرصاص، رمل خفيف يتطاير أمام أعيننا على شكل موجات رذاذ المطر الخفيف حين يرى من علو أو سحب خريف تمر مسرعة في السماء. كانت العاصفة قوية إلى درجة تحمل معها أحجارا يفوق وزنها النصف كيلوغرام، لو ارتطمت برأس بشري لن ينجو منها. جلسنا القرفصاء وأغمضنا أعيننا وأعطيناها بالظهر، عملا بنصيحة رجل مسن من ساكنة المدينة كان محتميا بالقرب.
دامت العاصفة لأكثر من نصف ساعة، والمدينة تعيش ما يشبه الطوارئ، وقد تحول النهار إلى ما يشبه الليل. وحين هدأت العاصفة، فتحنا أعيننا، وإذا بملامح المدينة قد تغيرت: الرمال والحصى تغطي الأزقة والشوارع، أشواك خفيفة وأكياس بلاستيكية بكل الألوان تغطي إسفلت الأزقة القريبة وصولا إلى مشارف الشارع المركزي. كانت تجربة فريدة لن أنساها في حياتي، ولكنها مخيفة ومرعبة، كنت أول مرة أشاهد فيها عاصفة رملية بهذا الحجم. بدأت أتخيل كيف سيكون حالنا لو أنها وجدتنا في العراء، وحمدت الله على أننا كنا قريبين من أطراف المدينة.
قضيت خمسة أيام في طانطان، كل يوم أذهب فيها إلى ما يمكن تسميته مجازا بمحطة طرقية، ساحة رملية بلا أسوار، بها بيت حارس وحافلتان معطلتان لا تتحركان. كلما سألت عن سيارات أجرة العيون، يجيبوني أنهم ينتظرون اكتمال “الكوفة”، عرفت بعدها أن الأمر لا يتعلق بـ”كوفة” النجف في العراق، ولكن بنظام معين في السفر كان معمولا به في ذلك الوقت. لا تقلع هذه “الكوفة” كما يسمونها أو القافلة إلا إذا اجتمعت عشر سيارات من نوع “لاندروفر”، وتنطلق مجتمعة تصاحبها سيارتان عسكريتان: واحدة في الأمام وأخرى في الخلف مزودتان برادارات لحماية الركاب والسائقين وإرشادهم إلى الطريق، حتى لا يتيهوا بين الكثبان الرملية في غياهب الصحراء، وكانت السيارتان العسكريتان على اتصال دائم بالطيران الحربي، حتى إذا ما تعرضوا لهجوم من طرف ميليشيات الانفصاليين يطلبون النجدة.
في الخمسة أيام التي قضيتها في طانطان لم تجتمع تلك العشر سيارات، كل واحدة منها تحمل عشرة مسافرين، لأن السفر إلى العيون أو الداخلة يكون عادة أثناء عطل الجنود أو الأعياد، وبذلك لم أتمكن من الوصول إلى مدينة العيون، وانتهت رحلتي بزيارة طانطان الشاطئ، وبعدها قفلت راجعا من حيث أتيت مرورا مدينة بسيدي إفني الشاطئية. أخذت هناك أكلة بالسمك وفنجان قهوة مع إطلالة على شاطئ الأطلسي. وبعدها عرجت على شاطئ “مير اللفت” قبل أن تفاجأت مرة أخرى بحرارة تحبس الأنفاس في تزنيت، وبذلك بقيت زيارتي إلى العيون مؤجلة من ربيع 1985 إلى حدود اليوم…!!