“الأرائكية العلمية عند الإسقاطات الوهمية والتنزيل الميداني”
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا :الأرائكية العلمية والبحث دون تحديد محطة النزول
وإذ نحن الآن في زمن العولمة والعلمنة ومعها العمينة إن صح التعبير! فإن الفتاوى الفقهية وقل حتى الطبية ولم لا السياسية ،قد أصبحت أرائكية ومستندا ماديا لا علميا ولا عمليا، وكأن الأرائكية تتماشى مناسبة مع مصطلح اللائكية، وذلك فيما يتعلق وعلاقة الجمهور ببعضهم البعض أو تطبيق الحاكم لما يقتضيه الوضع من حلول وعلاجات يتحقق من خلالها الصالح العام وتنضبط بها الأحكام ويترسخ الاستقرار والأمن.
وحينما نصف الفتاوى وخاصة الدينية بالأرائكية فذلك من مصطلح شرعي ونصي محض عبارته ومضمونه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله عز وجل”.
فالكثير قد يفسر الأرائكية هنا بمعنى أن هذا المتعالم أو المتجرئ على الفتوى يدلي برأيه المحض عبر القنوات، والمباشر الهزيل والهجين و المتسيب عند شبكة الأنترنيت في مسألة شرعية دون أن يكون لديه اطلاع على قواعد أصول الفقه أو اللغة أو النصوص الدينية بصورة مباشرة ووعي وإدراك لمعانيها وأسرارها.
وهذا الاطلاع نفسه فيه جانب صحيح من الفهم ولكنه ليس كله، لأنه وإن حصل هذه العلوم على سبيل الاستظهار فسيبقى أرائكيا، وستبقى أحكامه غير مطابقة للواقع ولا متمشية مع مقتضيات النص ومناسبة له، وذلك لغيابه عن فهم جوهر أسباب النزول ومقتضى الخطاب.
وحيث إن الفقيه أو العالم مقصي ميدانيا عن الممارسة والتطبيق فإن فقهه أو فهمه يبقى ذاتيا وغير مناسب سواء في تحليلاته وتعليلاته أو في آثاره ونتائجه العلمية والاجتماعية، ومن هنا فسيصبح محصورا في الأرائكية، وهذا في حالة وجود فقهاء وعلماء منشغلين فعلا بمشاكل الواقع والتغيرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية وكذا السياسية الحادثة في دائرته.
أما أن توجد الأرائكية مع الجهل أو التكوين الناقص وغياب الانشغال والملاحظة والوعي بالمحيط فهذه هي الطامة الكبرى، ومنشأ التطرف في الأحكام والجري نحو الفتن وإشاعة البلبلة سواء لدى الحكام والمحكومين على حد سواء.
وإذا كانت الأرائكية في باب فقه المعاملات والقضاء تبدو وكأنها مفروضة بحكم الإقصاء من الميدان وغياب الإرادة في التطبيق فإن أسوأها حالا هي تلك التي تكشف عن المناوأة الصريحة للتصوف مثلا كعلم وعمل وأخلاق وأذواق، إذ ليس بين مثل هؤلاء المتفيقهين أو المتعالمين أي حائل أو عائق يمنعهم من سلوك منهجه أو التسليم به إيجابيا، باعتباره ركنا أساسيا ينبغي أن يتعلمه ويعمل به ولو جزئيا كل طالب للعلم الشرعي حتى يستقيم أمره كملازمة رئيسية في التكوين العلمي. وهذا ما يلخص عناصره عبد الواحد بن عاشر كمعبر عن الشخصية العلمية السليمة والمتكاملة في المغرب وباقي دول المغرب العربي والأندلس من قبل عبر التاريخ.
في عقد الأشعري وفقه مـالك وفي طريقة الجنيد السـالـك.
وعند هذا الإقصاء سيفتضح أمر هؤلاء المتعالمين وتتبين الغايات من ادعائهم لأنهم فعلا مقصيون من الساحة العلمية والتطبيقية، إذ لو كان غرضهم الرئيسي هو تطبيق الشريعة لكان الأولى بهم أن يسعوا إلى البدء بأنفسهم من حيث تعويدها على الأخلاق الفاضلة بالذكر والصحبة وسلوك مبدأ التثبت والروية وهي قواعد صوفية وأصولية شرعية أساسية لتحصيل العدالة الظاهرية والباطنية. نقتطف نموذجا من رؤوسها في المنظومة المذكورة آنفا:
ويوقف الأمور حتى يعلمــــا مـــا اللــه فيهــن قــد حكمــا
يطهـــر القــلب من الريـــاء وحســــد وعجــــب وكـل داء
واعلم بأن أصل ذي الآفـــات حب الرياســـة وطرح الآتـــــــي
رأس الخطايـا هو حب العاجلة ليس الدواء إلا في الاضطرار له.
ومن هنا كانت الحكمة المشهورة ربما قد تنسب إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن جمع بينهما فقد تحقق!”
لكنا مع الأسف نجد الأرائكية مجسدة بصورة لا تقبل الجدل أو المماراة وخاصة في الموقف من التصوف و أهله الحقيقيين!. إذ إضافة إلى التهجمات والإسقاطات والتحريفات التي قد توظف في الكليات ويسلخ من خلالها هذا العلم من مفهومه الحقيقي سواء لدى المتسلِّفين أو المتفلسفين والعلمانيين ، نجد تهربا واضحا من الاطلاع على مراكز أهله سواء كانت طرقا تقليدية أو تحقيقية. كما نلاحظ قدحا ونقدا لبعضها على سبيل الشائعات وأخبار السوق والغوغاء، منها ما يدرج في المدرجات الجامعية ومنها يروج على المنابر وغيرها من الأماكن التي كان من المفروض أن تعلم فيها الفضيلة والآداب والعلوم البناءة.
ثانيا: الميدانية النموذجية في ترسيخ الجدية العلمية:
وبهذا الإجراء الذي قد يطال كثيرا من المرافق الحيوية الميدانية و الشبيهة في الأمة ستهدر أهم مبادئ العلم الموضوعي، وهي الملاحظة والمعاينة مع التجربة وتكرار الإصابة وقبلها الفرضية والمسلمة. لأن هذه القواعد تؤسس المنافذ والأبواب ووسائل المعرفة الصحيحة عند الإنسان لكيلا يقع في البطالة الفكرية وتصبح أحكامه جزافية وأرائكية يجمع هذا قول الله تعالى: “لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا” و”إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”.
فالحكم على عالم ما أو ولي وشيخ صوفي، أو على طريقة وجماعة وحزب ما،أو حتى على سلطان ومسؤول سياسي، لا ينبغي أن يكون مجرد إسقاطات وظنون وتوهمات، وإنما يجب أن يؤسس على معطيات مناسبة والموضوع المبحوث فيه. حتى تتحقق الغاية من الدراسة الجامعية ويتكون لدينا علماء إيجابيون بالاقتداء السليم، يقومون بدورهم في إصلاح المجتمع والمصالحة مع الذات بتزكيتها من التناقضات والمهاترات والتوهمات…
وكنموذج تاريخي على هذا البحث العلمي الأكاديمي أذكر مثال الغزالي باعتباره متخرجا من مدرسة نظامية تدرس وتحلل وتعلل وتقرر ولا تبرر وبالتالي تحرر، فيقول عن مسيرته العلمية وميدانية أبحاثه، “ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته، خوض الجسور لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر تصوفه ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد شرة الصبا”
بعد هذا الاستعراض العلمي للطوائف والمذاهب، سيختار سلوك التجربة في مجال التصوف كما يقول: “ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل”
وبعد التجربة سيعود بالثمرة لا ليستأثر بها لذاته وإنما ليفيد بها غيره وليصلح بها مجتمعه، ولكن ليس على طريقة الأرائكيين كما سبق وبينا وإنما هو إصلاح قائم على الاستمارات والاستجوابات والمقابلات الشخصية للعينات، حتى إذا توفرت المعلومات وتحللت تبينت عندها العلل والخلفيات، فإذا هي أربعة:
⦁ سبب من الخائضين في علم الفلسفة
⦁ سبب من الخائضين في طرق التصوف
⦁ سبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم
⦁ وسبب من معاملة الموسومين بالعلم بين الناس”.
فأين علماؤنا الآن من هذا المنهج سواء في الجامعات أو الجوامع وسواء لدى علماء الشريعة والفقهاء أو لدى الفلاسفة والمفكرين كما يزعمون؟.
لا نكاد نعثر على بحاث يعتد بهم من هذا المستوى في جامعاتنا سواء سميت بالعتيقة أو الحديثة،ولا أستثني نفسي منهم، خاصة ونحن في عصر التواصل والأنترنيت والأقمار الصناعية والهواتف المحمولة وما إلى ذلك من وسائل النقل والاتصال، اللهم إلا ما قد نجده في مجال ما يسمى بعلم الاجتماع ولكن في حدود ضيقة وبسيطة ومؤدلجة مستنتجة قبل البحث، ولا تتوخى سوى مراحل التغيير الاجتماعي وصوره وأنماطه، وهي في الحقيقة لا تمثل سوى تحصيل حاصل ظاهر للعيان وبين لكل ذي عينين من بني الإنسان!.
ولقد كان من الأولى أن يقوم بمثل هذه البحوث الميدانية علماء المؤسسات ذات الطابع والدراسات الدينية ،الشرعية الأصولية ،والأكاديمية في نفس الوقت، وخاصة إجراء بحث عقدي اجتماعي أو بحث عقدي سلوكي أو ما إلى ذلك مما يمكن تفريع مسالكه إلى وحدات للبحث العلمي حسب المنهج الجديد المقرر تطبيقه في الجامعات، وقصد تشخيص الواقع ومحاولة استنتاج إيجابياته من سلبياته وطرح حلول علاجية ووقائية على المستوى الآني والمستقبلي.
فإذا كان العلماء أو الفقهاء لا يستطيعون القيام بجولات استطلاعية للمؤسسات الدينية ذات الخصوصية الروحية أو العلمية أو حتى الثقافية التراثية، وهي مؤسسات محدودة وغير معقدة التركيب والتنظيم، فكيف سيحفزهم البحث للقيام بجولات في مرافق الحياة العامة واستجواب أفراد المجتمع تطوعا وتحملا للمسؤولية من أجل إدراك أسباب انحرافاته وعلله؟.
لا شك أن هذه المقدمة قريبة جدا من نتيجتها وهي أن ظاهرة الأرائكية وغياب الباعث الديني الحثيث للإصلاح قد أصبحت هي الطاغية على هؤلاء، وبالتالي أصبحوا المشخصين عمليا للبطالة الفكرية للمجتمع على أعلى مستوى هيئاته، وهو ما سينعكس لا محالة على البطالة العامة التي أصبح يعاني منها المجتمع العربي والإسلامي في جل مرافق حياته ومؤسساته مما لا يحتاج معه إلى استقراء وتتبع وإنما كما قال الشاعر:
وأحسـن مـا في خـالـد وجـهـــه فقس على الغــائب بالشـاهــد!