في فلسطين المحتلة قمة التدمير : فأينكم أيها المتحضرون بغير ضمير؟
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
طبع أو لا تطبع ،ضبّع أو لا تضبّع ،جرّع أو لاتجرّع ،برّع أو لا تبرّع،وزّع أو لا توزّع،زرِّع أو لا تزرِّع،فهذا ليس شأننا ولا دخلنا ولا لعبنا ،بل هو مرتع السياسة والمشاكسة والكواليس والكوابيس.وللسياسة أحكامها وخيوطها وأخطبوطها، لا ندري إلى أين قد تصل مجساتها وخبراتها ومستخبراتها واستخباراتها.وليس الوقت الآن لتحليل هل هذا الصراع القائم قد جاء كمناورة انتخابية من الطرفين أو أنه استدراج ولعبة بين الفصائل والأجنحة والأذيال…
لكن المهم عندنا كأفراد ومواطنين عاديين ومثقفين متابعين ودارسين لأصول الفكر والمنهج غير قادرين أن نغض الطرف عما يجري من ظلم وطغيان،هو أن ندلي بما يمليه علينا ضميرنا من غير تطرف ولا شطط ولا إسقاط ولا عنصرية ولا حقد أو كراهية.ومن هذا المبدأ الذي يفرض علينا التعبير عما يختلجنا نقول:
أولا:صهاينة التدمير والخروج عن دائرة الإنسانية وأخلاق التعمير
قد يعجز المرء عن وصف ما يحدث بفلسطين المحتلة عامة وبغزة خاصة ،مربع الصمود والإباء ،كشعب مستضعف محاصر بكل فئاته وطوائفه وفصائله وشرائحه ،من دمار شامل ومبيت،وحينما أقول شاملا فلا أقصد به المصطلح البدائي الذي غلب على ألسنة سياسيي هذا العصر المنكفئ نحو الظلم والظلمات والجهل والضلالات وذلك من حيث توظيفهم له اقتصارا على استعمال الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية أو النووية…
لكن الدمار الشامل في نظرنا قد كان ابتداء يعم المبادئ والأخلاق والعهود والمواثيق والمسؤوليات وكل نزعة إنسانية نبيلة وفطرية قد يعرفها الرضيع قبل الجميع والسارح قبل القطيع والأصم مثل السميع …
من هنا فكما قلت في مقال لي سابق بعنوان :”غزة في معبر نحو العزة “بأنه قد انكشف القناع وباع من باع،وبالتالي ستكون النتيجة ضرورة: بأن ضاع من ضاع من غير محاسبة ومراجعة جدية للأوضاع،فلم يعاقب المجرم ولم يشف غليل من له الحق في أن ينتقم ..
هكذا إذن قد تبعثرت الأوراق وضاقت عند توصيفها الأقلام والآفاق واختلط الدمار بالانتصار وسقط زيد بدل عمرو عند حكم الإعراب والإطناب،فلم يدر الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر المجهول،والممنوع من الصرف ومن لا محل له من الإعراب عن المقفى والموزون،تماما كما شاهدناه من تسوية للمباني بالأواني وللجثث بالأثاث وللإنسان بالحيوان وللنار بالأحجار وللماء بالسراب،فكان الحال أقرب بل أصعب من أصحاب الأخدود وما فعله بالمؤمنين آنذاك واليوم بغزة المتطرفون اليهود كما وصفهم الله تعالى في قوله:”قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلونه بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد”سورة البروج آية 4-8.
فالمأساة المضاعفة في زمننا هي أنه لم يكن اليهود الصهاينة المتطرفون ،ومعهم الداعم الظالم العام سام الأمريكي بل الغربي جله، وحدهم شهودا على ما يفعلونه بالمؤمنين بغزة ،بل العالم كله وقف يتفرج ،يشاهد وهو يأكل على الموائد،بعضه يحلل ويعلل والآخر يصرخ وينوح وذاك مصدوم ولا يكاد يبوح…ولكن لا حياة لمن تنادي،لأننا في زمن موت القلوب بعدما ضيعت قوتها وزادها من الذكر المحبوب…
من هنا فلقد كان الدمار الشامل دمارا للقيم وللمشاعر ولكل معاني الإنسانية الفطرية في التعاضد والتدافع والنجدة،رغم اختلاف المعتقدات وتضارب التوجهات،إذ وحدة الشعور جامعة لكل كائن وساكن،والطفل الرضيع مدعاة للمحنَّة والرأفة عند الجميع…وهذه هي جائحة كرونا الحقيقية والداء الذي ليس له لقاح سوى البتر والاستئصال.
ولقد كان أسوأ ما في هذه اللعبة القذرة هو إدراج الأطفال الرضع والنساء الحوامل ضمن الاستهداف بالقتل والتدمير مباشرة أو ضمنا ،وفي هذا هزيمة للعدو الصهيوني ولكل من يراهن على دماء الأبرياء والعزل من الناس كورقة سياسية وطموحات فئوية آنية وفانية كائنا من كان،وبالمقابل قد تحقق النصر للإسلام بمبادئه وأحكامه على كل متزعمي الحكومات والحروب في العالم تنظيرا وممارسة شقية،وذلك حينما حرم قتل الأطفال خاصة في المعارك الميدانية مهما كانت ضراوتها وتعقيداتها كما قد نجد هذه الوصية من رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة “دومة الجندل” بقوله:”اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم “نور اليقين ص188.
من هنا فقد كان لزاما أن يتحرك العالم ،موافقا لهذا الأمر النبوي،بفطرته للاستنكار على الصهاينة اليهود بسبب تعمدهم الفاضح لقتل الأطفال سواء كانوا رضعا أو تلاميذ مدارس وغيرهم .
…وحيث إن اليهود الصهاينة هم من قد مارس القتل والتدمير على أهل غزة وباقي مناطق فلسطين ومحيط المسجد الأقصى الشريف بل بباحته،وبتلك الوحشية الأخدودية والجرم الذي ما بعده من جرم فقد أكدوا واقعيا ما نص عليه القرآن الكريم من حقيقة ما تخفيه نفسية الصهيوني المتطرف في الغالب من عداوة وغدر تجاه أهل الإيمان والإسلام وذلك حينما وصفهم بقوله:”لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”الآية،فكان هذا لوحده انتصارا للإسلام خاصة…في حين قد أثبتت معركة غزة كذب اليهود على الأنبياء وعدم التزامهم بأي دين، وخاصة بالتوراة ومبادئه التي يزعمون اتباعها والتشدد فيها وبالتحديد في مجال القتل كما ذكر الله تعالى عنهم في قوله:”من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا “.
ثانيا:الصهيونية واقتحام الحرمات دليل الهزيمة واستحقاق اللعنات
وما يفعله الصهاينة بغزة وغيرها هو قتل نفوس بريئة ورضيعة بغير مقابل أو قصاص ومن جهة أخرى فقد دمروا الديار وأهلكوا الحرث وخربوا المنشآت المدنية والتعليمية خاصة،وهذا هو عين الفساد وقمة الجبن والخذلان والحقد والكراهية للبشرية جمعاء،بل قد قصدوا المساجد بيوت الله للعبادة،وعلى رأسها “المسجد الأقصى” أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى وملتقى الأنبياء والرسل من سيدنا إبراهيم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،وهو من أعظم المفاسد والمظالم على وجه الأرض ودليل المروق عن الدين – كل دين- وكيفما كان نوع التدين لديهم فيما يزعمون .إذ استهداف أماكن العبادة قد يعد تعبيرا عن قمة العنصرية والكفر والإلحاد والتعصب والتطرف والإرهاب،لأن تلك الأماكن قد تمثل في وعي الإنسانية جميعا مركز التدافع الكوني ومحوريته لبقاء القيم والمبادئ على وجه الأرض وفي روح التعاملات الإنسانية عموما وهو ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله تعالى:”ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز”الآية.إذ الملاحظ أن القرآن قد قدم في الخطاب الصوامع والبيع عموما على المساجد حتى تبقى كل أماكن العبادة محترمة ومجالا لتكريس حرية الاعتقاد لدى كل من اليهود والنصارى في داخل المجتمع الإسلامي وتحت حماية دولته.من هنا فقد كان عمل الصهاينة التدميري هذا في حد ذاته نصرا للإسلام وقواعده المؤسسة للعدالة والسلم العالمي والمنظمة للعلاقات البشرية بشتى مذاهبها ونحلها ومللها،وبالتالي فقد حقق اليهود الصهاينة من حيث لم يريدوا أو يقصدوا قول النبي صلى الله عليه وسلم :”إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر”.فلقد خسر الصهاينة كل المبادئ الإنسانية والدينية جملة وافتضح أمرهم أمام العالم بالصوت والصورة وأصوات القنابل والصواريخ وطائرات الشؤم والخراب، وتنبه من كان غافلا عن حقيقة الأفعى الصهيونية والماسونية الساهرة على تدجين حكام العالم بشتى الوسائل نحو خدمة أهدافها الإجرامية وخاصة عندما استغل اليهود الصهاينة موضوع الهولوكست المشكوك فيه، وإيهام بوقوع ظلم وإبادة جماعية مبالغ فيها على اليهود من طرف النازية،لكنهم في الحقيقة وعند التمحيص سيكونون هم المجرمون الحقيقيون عبر التاريخ وهم القتلة الفجرة بغير رادع أو ضمير وهم موقدوا الحرب ومؤججوها في العالم لتحرق الجميع.فالدليل مازال حيا يقطر دما في غزة لولا لطف الله تعالى بالبشرية جمعاء وتصرفه الغيبي في ردع هذا الجنون الإجرامي الذي يطبع نفسية اليهودي الصهيوني كما نجده مبينا في الآية الكريمة :”كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا”.وبالمقابل كعدل من الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة فقد قيض لهم من الناس سواء كانوا مسلمين وغيرهم من ينتقم منهم عبر التاريخ إلى أن تقوم الساعة وذلك كجزاء وعقاب لهم على سلوكهم البوريمي(نسبة إلى عيد البوريم) المؤسس على سفك الدماء البشرية واحتقار الأمم،إذ يقول الله عنهم:”وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب”،من بختنصر إلى هتلر وغيره والسلسلة تطول …
إذن فالواقع قد يؤكد بقوة وجلاء انتصار الإسلام بمبادئه وإخباره عن خبايا النفوس الصهيونية ونزعتهم التدميرية عبر التاريخ وهو ما قد تجسد بأجلى مظاهره في غزة الشهداء والأبرياء والأطفال الرضع والمستضعفين من الرجال والنساء العزل من السلاح والعتاد والمؤازرة.وهذا الأمر لا يدخل في الحسابات السياسية الآنية والعابرة والمبررة ،لأن للسياسة أحكامها وظروفها المتأرجحة بحسب المصالح والمقتضيات ولكن للدين ثوابته وحكمه النافذ الذي لا يتغير بتغير الزمان والأحوال وتعاقب الأجيال.
كما أن حديثنا هنا ليس من منطلق عقدي أو تطرف ديني أو كراهية جزافية وإنما هو حكاية لواقع قد أبكانا وأحزننا وغمنا وأكربنا ولم نجد له تفسيرا ولا متنفسا إلا هذه الأوصاف التي ذكرنا.في حين قد لا نعمم حكمنا على اليهود كيهود وعلاقتهم بنا كمسلمين وعرب كمسلمين بالرغم من الاختلاف العقدي الذي يفرق بيننا وبينهم.
إذ ليسوا كلهم غادرين وليسوا كلهم غير مؤتمنين كما يقول الله سبحانه عنهم:” وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ”،وكما يقول نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :” مُخيريق خير يهود”.كما لا ننسى أن للنبي صهرا مع اليهود من خلال زواجه بالسيدة صفية بنت حيي بن أخطب بن سعية أم المؤمنين رضي الله عنها و التي قد أسلمت عن طواعية واقتناع وبعد تخيير.وحيي هذا قد كان سيد يهود وعدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في حين سيسلم زيد بن سعية(من المحتمل أن يكون عمه حسب ترتيب النسب أعلاه) أحد كبار أحبار اليهود ،وذلك عن طريق اكتشافه للحلم العظيم والرحمة العالمية التي يتصف بها النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .وأخيرا فقد” توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير” رواه البخاري عن عائشة أم المؤمنين رض الله عنها.
فالمشكلة ليست مسألة تعايش فهذا واقع قد عاشه اليهود في ظل الدول الإسلامية المستقرة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا وخاصة ببلدان المغرب العربي ،وأخص منه المغرب الأقصى في مناسبة دلالية ولفظية مع المسجد الأقصى .بل المشكلة هي من الطرف الآخر الذي يريد أن يقيم دولة مارقة غاصبة على حساب حقوق أهل الأرض وأهل الحرم وأهل الأقصى التي لا تتقادم وغير قابلة للنسخ والمساومة أو الصفقات الظلامية. فالحق لا يتقادم والغاصب لا يصبح مالكا والمال الحرام لا يُبيَّض ليصبح حلالا،وكل ما بني على باطل فهو باطل.والظلم ظلمات غدا يوم القيامة.
وفي توصيف قرآني قطعي لواقع الفلسطينيين وجهادهم المقدس وحال القدس الشريف ومآله يقول الله تعالى”قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين” .”وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ،فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا”.صدق الله العظيم وهو نعم المولى ونعم النصير.