وفاء لروح المدرب الوجدي جانيك ريناهارد
عمر أورحو
في هذه الأيام الأخيرة من شهر رمضان المبارك، تلقينا خبر وفاة المدرب المتميز رينهارد جانيك REINHARD JANIK، وهو من أصول ألمانية بولندية، أقام بمدينة وجدة منذ فترة الاستعمار الفرنسي إلى فترة الثمانينات من القرن الماضي. كان المدرب جانيك يعتبر المغرب بلده، ومدينة وجدة مدينته، ولم يكن يخطر بباله يوما أنه سيغادرها لولعه بها وعشقه لها، رغم أن زوجته قد غادرت نحو فرنسا، وبعدها بسنوات تبعها أبناؤها كارل Karl وفرنك Franc لمتابعة دراستهما هناك، ولكن حين جاء دوره لمغادرة مدينة وجدة كانت مغادرته لها اضطرارا على إثر فاجعة حصلت بقاعة كمال الأجسام الملحقة بمنزله، والتي كان ضحيتها طفل في السابعة أو الثامنة من عمره.
كان المدرب جانيك معروفا لدى ساكنة وجدة، خصوصا منهم الرياضيين، بل وكان يعرفه حتى من لم تكن له صلة بالرياضة بمدينة وجدة، ليس لأنه كان من أصول أوربية، وإنما لكونه كان مدربا يملأ الفراغات في عدة مجالات رياضية، وكان مهتما بشكل ملحوظ بفئة الشباب ذوي القدرات المتميزة والمؤهلات الرياضية، فكان يحرص كل الحرص على أن يقدم لهم العناية الخاصة سواء على المستوى البسيكولوجي أو على مستوى التدريب وذلك لرفع معنوياتهم ويصقلوا مهاراتهم ليحققوا نتائج حسنة في الأندية المحلية أو الجهوية أو الوطنية وحتى الدولية.
كل من عرفه أو التقى به لأول مرة، أو كان صديقا له، إلا ويشهد بأن الرجل كرس حياته من أجل الرياضة وصناعة الأبطال من شباب مدينة وجدة. فمن الرياضات التي كانت تحضى باهتمامه: رياضة ألعاب القوى، الكرة المستطيلة، رياضة الجيدو أو المصارعة اليابانية، كما كان غواصا ماهرا. أما بالنسبة للكرة المستطيلة فقد كان يعتبر من الأوائل الذين أدخلوها لمدينة وجدة إبان الاستعمار الفرنسي. كما كان من مؤسسي فريق الاتحاد الرياضي الوجدي الذي كان بطل المغرب لعدة سنوات بدون منازع.
لقد كان السيد جانيك يهوى ألعاب القوى بشكل جنوني، لذلك كانت تدريباته تبدأ منذ الصباح الباكر انطلاقا من الخامسة والنصف، إذ تجده وسط ملعب حديقة لالة عائشة، ومن النادر أن تجد مدربا في مثل هذا الوقت، إلا من كان له شغف مثل شغفه كالمدرب لصفر مدرب اتحاد سكك وجدة، والسيد أبجاو إدريس مدرب اتحاد الأمل الوجدي. وكان السيد جانيك يحترم هذين المدربين لهذه الخاصية التي كانا يمتازان بها.
فمن المعروف، وهذا مبدأ في الرياضة، أن لكل نوع من التخصص مدربا خاصا، مثلا تتكون ألعاب القوى من عدة تخصصات منها: الجري والرمي والقفز والمشي. وكل تخصص من هذه التخصصات تتفرع عنه رياضات فرعية أخرى مثلا في القفز هناك القفز الطولي، والقفز العالي، والقفز الثلاثي، والقفز بالزانة..وفي الرمي: هناك رمي الرمح ورمي الجلة ورمي القرص ورمي المطرقة. فالسيد جانيك كان بإمكانه في الحصة الواحدة تدريب عدة رياضيين في مختلف تخصصاتهم. وهذا لم يكن ممكنا في باقي النوادي اذ نجد عدة مدربين، كل واحد في تخصصه.
رغم أن طريقة تدريبه لم تكن تعتمد على مناهج علمية في التدريب، إلا أنها كانت تعطي نتائج حسنة لكونها كانت تعتمد على التدريب المستمر على طول السنة وطيلة أيام الأسبوع، وفي كل الفصول. ويمكن القول بأن المدرب جانيك اعتمد طريقة كلاسيكية في التدريب والتي تعتمد على التدريب الشاق والعمل المستمر، فالمتدرب يجب أن يعمل بجد ويتعب إن أراد تحقيق أهدافه. وهذه خاصية لرياضة العاب القوى لأنها رياضة فردية وتتطلب التحدي لعناصر الطبيعة. كالجاذبية في سباقات القفز وكالزمن في سباقات الجري وقوة الدفع في سباقات الرمي. فالتحدي المتواصل هو أكبر حافز لمثل هذه الرياضات.
إن السيد جانيك كان يمزج بين جميع مؤهلاته التدريبية ويجعلها متكاملة لما تتطلبه أسباب التفوق والنجاح في رياضة ألعاب القوى، بحيث كانت نتائج الرياضيين تعبر عن هذه الحقيقة في جميع الملتقيات والسباقات.
فالحديث عن السيد جانيك في المجال الرياضي، لا يمكن الإحاطة به كليا، لأننا في صدد إعطاء نبذة عن حياته خلال الفترة التي كنت فيها أحد رياضييه في الاتحاد الرياضي الوجدي ما بين أواخر السبعينات وبداية الثمانينات.
أما فيما يخص رياضة الجيدو او المصارعة اليابانية فقد كانت مكسب قوته ومعيشته البسيطة، بحيث كان يقوم بالتداريب في المساء في قاعته التي كانت كملحقة لمنزله الفريد من نوعه.
كان السيد جانيك يسكن في منزل بني من الخشب في فترة الاستعمار. وكان يشبه المنازل الأمريكية القديمة ( الويسترن)، وكان محاطا بشباك، وباب منزله مفتوح لا يغلق ليدخل الرياضيون بسهولة إلى قاعة الجيدو وقاعة الكمال الجسماني.
لم يكن السيد جانيك ثريا ولا من الطبقة المتوسطة، رغم أنه كان أوروبيا، كما نظن نحن المغاربة في لاوعينا الجماعي، بحيث كنا نعتبر أن من البديهي أن كل أوربي غنيا . بل كان من الطبقة الكادحة وفي بعض الأحيان لم يكن يجد شيئا يسد به رمقه. ففي أحد الايام كنا راجعين من التداريب فقال لي: ” هكذا هي الحياة يوم نأكل فيه الخبز بالعسل. ويوم نأكل فيه الخبز حافيا”. لقد كان ابن الشعب ويعيش كما يعيش بقية ساكنة وجدة البسطاء. وحتى الثراء لم يكن يهمه أو يسعى إليه . بل كان يكرس حياته في خدمة الشباب والرياضة. وكان يشتري أدوات التدريب من ماله الخاص، ليس هذا فحسبن بل كان يساعد بعض الرياضيين الذين كانوا في حاجة ماسة للمساعدة…لقد كان شخصا فريدا من نوعه.
أحيانا لم تكن حياته سهلة نضرا لوجود أناس عنصريين كانوا يبغضونه، وبعضهم كانت تصل به الوقاحة إلى شتمه والسخرية منه. أتذكر يوما كانت له حصة تدريبية في الملعب الشرفي فاعترضنا مدير الملعب ولم يسمح لنا بالدخول، فرد عليه السيد جانيك بقوله:” أنسيت لما جئتني شابا تريد ممارسة الرياضة ولم تكن تتوفر حتى على حذاء رياضي فمنحتك أحذية تشجيعا لك. وها أنت اليوم أصبحت مسؤولا وصرت تمنع شباب بلادك من ممارسة الرياضة، فأي منطق هذا، فإن كنت تكرهني شخصيا فما ذنب شباب بلادك”. لم نكن نتواجد ذلك اليوم أمام الملعب الشرفي، الا لأن كان لنا الحق في حصة تدريبية أسبوعية كسائر الأندية.
لقد لجأت إلى كتابة هذا المقال المتواضع ردا لجميل هذا الرجل وما قدمه للرياضة الوجدية، ولو أنني أعرف أن مجرد مقال لا يفي بذلك، بل لعل مائة أو ألف مقال لا تكفي لأن دين الرجل سيظل معلقا في رقبة مدينة وجدة وكل الرياضيين الذين تتلمذوا على يديه.
لا يمكن لاحد أن ينكر أو يتجاهل هذه الحقيقة: إن السيد جانيك ترك بصمته في التاريخ الرياضي لمدينتنا وتشهد له عدة أجيال بهذا.