ابن حزم الأندلسي بين سلطة الحب وحب السلطة”
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا:النشأة ودور المرأة في تكوين ودغدغة الشخصية:
هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب،أصله من الفرس وجده الأقصى في الإسلام هو يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب،وكان جده خلف بن معدان هو أول من دخل الأندلس في زمن عبد الرحمن بن معاوية،أما آباؤه الأقربون فأصلهم من قرية إقليم الرواية كورة نبلة من غرب الأندلس.
ولد بقرطبة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة،و بها سكن هو أبوه ونالا فيها جاها عريضا،بحيث كان أبوه أبو عمر أحمد بن سعيد أحد وزراء المنصور بن عبد الله بن أبي عامر،ووزر لابنه المظفر بعده،وقد تقلد أبو محمد ابن حزم بدوره منصب الوزارة لعبد الرحمن المستظفر بالله،ثم نبذ هذه الطريقة-على حد تعبيره-وأقبل على قراءة العلم وتقييد الآثار والسنن.
بهذا فيكون قد نشأ في حضن أسرة لها مكانتها المرموقة في المجتمع،مالا وجاها ومكانة اجتماعية،ومن ثم فلا غرابة أن ينشأ الولد في هذا الجو مدللا ومرفها.
فكان من أوائل من أولاه حقه في الدلال والرعاية- كما يحكيه- النساء،بحيث كان احتكاكه بالجو النسوي أكثر من مجالسة الرجال،خاصة في مرحلة صباه و مراهقته…
فقد وكل أبوه الجواري والخادمات لتعليمه والقيام بشؤونه كما يحكي:”ولقد شاهدت النساء وعلمت أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري،لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيل وجهي،وهن علمنني القرآن وروينني كثيرا من الأشعار ودربنني في الخط ولم يكن وكدي وإعمال ذهني من أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن وتحصيل ذلك،وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن،وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها وسوء ظن في جهتهن فطرت به فأشرفت من أسبابهن على غير قليل”.
في هذا الجو إذن نشأ؛وعلى هذه النفسية ترعرع،فكان أساتذته الأوائل هم النساء كما ذكر،مما ولد لديه ردود فعل مبكرة ستحدد الاتجاه النفسي لديه فيما بعد كرجل علم وباحث موضوعي.
كما أن هذا الجو سيكون حقل تجربة واقعية ومباشرة للقضية محل الدراسة،وسيمثل خصائص وعيه في هذا الميدان،إذ من الناذر أن يتيسر لولد من وسط سياسي العيش في بيئة نسوية تمارس حركاتها وسلوكها بشكل عفوي وتلقائي من غير تكلف أو تصنع،كما أن وجوده أيضا هنا لم يكن نابعا عن مخطط مدروس أو عمل مسرحي أو تجسس مرتب،وإنما كانت ملاحظاته غريزية ومن شغف نفسي محض وحمية ظرفية.
في حين أن الانفعالات والأحوال التي بدت على سلوك أولئك النسوة كان فيها نوع من اللاشعور وإبداء للبواعث الدفينة في أعماق النفس حينما تواتي الفرصة للتعبير على السجية وبدون رقابة أو توجس.
هكذا إذن اجتمع الملاحظ والملاحظ في خاصية نفسية دقيقة وكفيلة بوصف الحالة أو الظاهرة وصفا علميا واقعيا وإعطاء النتيجة السليمة في نهاية المطاف.
مثال هذا كمن يريد مراقبة تنفس المريض بدقة،بحيث بمجرد ما أن يشعر هذا الأخير بالعملية والمقصد حتى يبادر بتلقائية وبانعكاس شرطي إلى تغيير مستوى تنفسه سواء أراد ذلك أم لم يرد،ومن ثم فستكون النتيجة غير صحيحة.
فلئن كان هذا المثال لا ينطبق كليا على موضوع ملاحظة ابن حزم للنساء اللواتي كان يعيش في وسطهن،لأنه لم يكن له برنامج مخطط للوصول إلى النتيجة المستهدفة إلا أنه قد ينطبق كليا على أولئك النسوة اللواتي كانت تصدر عنهن أفعالهن وحركاتهن بعفوية وتلقائية نفسية تعبر عما يختلج كوامن نفوسهن وما يدور في خلدهن.
ثانيا:نكبة السلطة وآثار ازدواجية الصدمة
إن هذا الرفاه في العيش سوف لن يطول كثيرا ،كما يقول الشاعر في حق الأندلس نفسها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما تداولتها أمم
من سره زمان ساءته أزمان
فلا بد من هزات توقظ المضاجع وتروع النفوس،ربما تكون مصحوبة أحيانا بالهلاك المتلف أو الصحوة الكاملة والوعي الذاتي بالحياة وقيمتها ومتطلباتها.
فالهزات قد تكون عامة وحضارية وتكون خاصة وشخصية…وبما أن ابن حزم كان من خاصة أهل الأندلس،نظرا للمنصب الذي كان يشغله أبوه فإنه سوف يتعرض لنكبات لم يستطع أن يخفي معها تألمه وتبرمه منها .
هذه النكبات جمعت بين فقدين لحبيبين في آن واحد وهما:حب الجاه والسلطان والحب العاطفي المتمثل في كلفه عن مقتبل عمره بفتاة ستحول دونها وإياه الفتن والنكبات…
يقول واصفا حالته النفسية اتجاه هذا الفقد المزدوج:”ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربط الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة،وانتقلت أنا بانتقاله وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة،ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك،ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين بالنكبات …وامتحنا بالاعتقال و الترقيب والإغرام الفادح والاستنار،وأرزمت الفتنة وألقت ياعها وعمت الناس وخصتنا إلى أن توفي أبي الوزير رحمه الله،ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة.
ثم ضرب الدهر ضرباته وأجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر فخرجت عن قرطبة أول المحرم سنة أربع وأربعمائة…”.
لقد ظل وفيا لوطنه رغم ما تعرض له من الجلاء،خاصة بعد غزو ما اصطلح عليه بالبربر الذين عملوا على طمس المعالم الحضارية لقرطبة،كما يذكر ذلك المؤرخون،لا مجال للتفصيل في هذا الآن.
بحيث سيحاول الرجوع إلى قرطبة التي أصبحت كما يصفها مستندا على رواية بعض العائدين منها:”أنه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها وقد امحت رسومها وطمست أعلامها وخفيت معاهدها وغيرها البلى وصارت صحاري مجدبة بعد العمران وقيافي موحشة بعد الأنس وخرائب مقطعة بعد الحسن وشعابا مفزعة بعد الأمن ومأوى للذئاب ومعازف للغيلان وملاعب للجان ومكامن للوحوش بعد رجال كالليوث وخرائد كالدمى تفيض لديهم النعم الفاشية،تبدد شملهم فصاروا في البلاد أيادي سبا،فأين تلك المحارب المنمقة والمقاصير المزينة التي كانت تؤذن بفناء الدنيا وتريك عواقب أهلها وتبرك عما يصير إليه كل من تراه قائما فيها وتزهد ف طلبها بعد أن طال ما زهدت في تركها وتذكرت أيامي بها…”.
هذا الوصف يعبر لنا عن مدى تأثره النفسي بما أصاب قرطبة بعد التخريب الذي لحقها من جراء غزو البربر لها وتهديم أهم معالمها،كما أن النص يصور لنا الطفرة السلبية التي حدثت في مسيرتها العمرانية بالانتقال المفاجئ من مستوى حضاري راق إلى انحطاط خمن له بقرب فناء الدنيا،وهو يعني قرب سقوط الأندلس عموما.
إن هذه النكبات التي تعرض لها ستجعله يعدل عن طموحاته السياسية ويزهد في الرياسة مع لزوم المنزل والانكباب على العلم دراسة وتأليفا…