البواعث النفسية والذاتية في” طوق الحمامة”لابن حزم الأندلسي
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
1)ظروف وملابسات تأليف الكتاب
يبدو من خلال الاطلاع على بعض البحوث التي تعرضت لكتاب :”طوق الحمامة”عند ابن حزم الأندلسي أنه ذو شهرة كبيرة لدى المثقفين سواء منهم العرب وغيرهم .
فقد يعتبر ذخيرة علمية بالنسبة لعلماء النفس أو الأدباء أو المؤرخين على حد سواء،ومما يزيد في قيمته ودلالته على شخصية المؤلف هو أنه يمثل الباكورة الأولى للكتابة لديه.
فيقال بأنه ألفه وهو في الخامسة والعشرين من عمره كما ذهب إليه ماجد فخري،لكن إحسان عباس يرى أن الكتاب ألفه وهو يناهز الأربعة والثلاثين سنة على أقل تقدير،مستدلا على هذا بأدلة تاريخية ،البعض منها مستخلص من “طوق الحمامة”نفسه والبعض الآخر منقول عن بعض المؤرخين له ك”الصلة”لابن بشكوال،و:”معجم الأدباء”لياقوت…وهذا الرأي الأخير أقرب إلى الصواب فيما أظن،لأن السن المذكور أنسب لمستوى المعلومات التي تضمنها الكتاب،وأيضا قد يتماشى مع تفرغه للتحصيل العلمي المتأخر كما يقال عن سببه.
هذا الكتاب قد ظل في طي النسيان والإهمال عدة قرون ولم يتعرض له العرب بدراسة أو تحليل ذي أهمية تذكر،بل إننا حينما نعود إلى كتب التراجم لا نكاد نعثر على إشارة إليه،حتى إن الذهبي الذي وقف كثيرا عند ترجمة ابن حزم لم يعرض له كما في كتابه “سير النبلاء”،باستثناء ما أورده المقري في “نفح الطيب”من ذكر له من بين التآليف التي خلفها.
بل حتى في “كشف الظنون”لحاجي خليفة لم أعثر له على أثر،وإنما أورد كتابا تحت عنوان”طوق الحمامة”نسبه إلى جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911،حيث ذكر أنه على مقدمة ومقصد،ويقول في سبب تأليفه:”سؤال ذكره في ديوان الحيوان بتمامه”مما يبين بأن تشابها ما أو توهما حصل لحاجي خليفة في نسبة الكتاب إلى غير صاحبه ،تماما كما هو الشأن لديه بالنسبة إلى كتاب:”تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق”عند ابن مسكويه ونسبته إلى ابن سينا.
ومما يزيد في دعم هذا الرأي هو أننا حينما نرجع إلى كتاب:”طوق الحمامة”الذي بين أيدينا نجده بدوره يتضمن إجابة عن طلب أو سؤال من شخص لابن حزم يحضه ويلتمس منه أن يصنف له كتابا في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه.
كما يذكر البعض بأن نسخة “طوق الحمامة”ظلت مهملة في مكتبة الأستانة التي كان يملكها حاجي خليفة صاحب “كشف الظنون”إلى أن جاء سفير هولندي مستشرق يدعى فون وارنر الذي اشترى عددا كبيرا من المخطوطات التي كانت موجودة في تلك المكتبة،فكان من بينها نسخة”طوق الحمامة”التي كانت مجهولة المؤلف والمكان الذي ألفت فيه،وبقيت على هذا الحال في مكتبة ليدن قرابة مائة وخمسة وسبعين عاما.
ومع مطلع القرن التاسع عشر عهدت الجامعة إلى عدد من المستشرقين بفهرسة المخطوطات العربية التي تملكها،فكان من نصيب المستشرق الهولندي رينهارت دوزي المتخصص في الدراسات الأندلسية أن اكتشف نسخة “طوق الحمامة”ويعرف المثقفين بها في أول طبعة تصدر لفهرس المخطوطات الغربية في جامعة ليدن وحمل وصف المخطوطة رقم461من مجموعة وارنر”.
بعد ذلك انتشر الكتاب عند القراء وترجم إلى لغات عديدة منها الإنجليزية،وأصبح محل اهتمام الدارسين من مختلف الأمم أمثال دوزي وبتروف وغرسية غوميت،من الباحثين الغربيين،وكذلك نجد عند العرب دراسات جدية عن هذا الكتاب كما ذهب إليه محمد الصادق عفيفي في كتابه :”الحب ومذاهبه النفسية والجمالية من خلال طوق الحمامة لابن حزم”،وأيضا كتاب “مشكلة الحب”لزكريا إبراهيم …
غير أنها كانت دراسات تركز على جانب الحب كغريزة عاطفية ومحدودة في صورة معينة،من دون أن تستثير قضايا نفسية عامة ودقيقة تضمنها الكتاب.
بحيث إن “طوق الحمامة”- كما سنرى- ليس مجرد كتاب غراميات وأشواق وإنما هو كتاب نفسيات وأخلاقيات في صورها الموضوعية ،كما أن له ارتباطا منهجيا بكتاب آخر هو:”الأخلاق والسير في مداواة النفوس”.
2)الدوافع الموضوعية والنفسية للتأليف
إن الدافع الرئيسي وراء تأليف هذا الكتاب-أي طوق الحمامة-هو طلب ورد على ابن حزم من أحد أصدقائه بأن يصنف له رسالة في صفة الحب معانيه وأسبابه وأعراضه لا متزيدا ولا متفننا لكن موردا لما يحضره على وجهه وبحسب وقوعه حيث انتهى حفظه وسعة باعه فيما يذكره.
من هنا كانت استجابته له بعدما درسه دراسة نفسية دقيقة وكذا خلقية وتأكد من صدق مودته وحسن نيته.
هذا الصديق بقي اسمه مجهولا ولم يستطع أحد من الباحثين معرفته أو الكشف عن أصله،لغاية أن البعض قد تشكك في مصداقية دعوى هذا الصديق المزعوم :هل هو شخصية حقيقية كصديق أبي العلاء المعري المعروف بابن القارح،الذي صاغ رسالة الغفران من أجله كي يلبي رغبته ويرد على طلبه،وكصديق عبد الواحد المراكشي(الوزير العباسي)الذي صاغ كتابه “المعجب” استجابة لطلبه،أم هو شخصية افتعلها ابن حزم ليبيح لنفسه الكتابة في مثل هذا الموضوع كما فعل الجاحظ في كتابه البخلاء؟!!!…
يبدو أن صاحب هذا التشكيك قد مال إلى الافتراض الثاني بدعوى أن كتاب”طوق الحمامة”ما هو إلا استجابة صريحة لتلك العاطفة التي كانت تدفئ صدره شوقا إلى ذكرياته الخوالي!.
لكن حينما نقيس ابن حزم بالمقاييس الأخلاقية نجده لا تخول له نفسه افتعال هذه المناورة العلمية والكذب الصراح الذي يتنافى مع مبادئه الأخلاقية وتوجهاته المذهبية الظاهرية.
بل قد صرح بكل وضوح ودون تعريض أو تلميح يمكن أن يشككنا في صحة دعوى هذا الصديق بأن الواقع الأساسي وراء تأليف كتاب “طوق الحمامة”هو تلك الرسالة التي وردت عليه من صديق بألمِرية مجيبا عليه بقوله:
“إن كتابك وردني من مدينة ألمرية إلى مسكني بحضرة شاطبة تذكر من حسن حالك ما سرني وحمدت الله عز وجل عليه و استدمته لك واستزدته فيك،ثم لم ألبث أن أطلع على شخصك وقصدتني بنفسك على بعد الشقة وتنائي الديار وشحط المزار وطول المسافة وغول الطريق، وفي دون هذا ما سلى المشتاق ونسى الذاكر إلا من تمسك بحيل الوفاء مثلك ورعى سالف الأذمة و وكيد المودات وحق النشأة ومحبة الصبا وكانت مودته لله تعالى”.
فأصعب شيء على نفسية ابن حزم هو الكذب مهما كانت الظروف التي تستدعي توظيفه بوجه أو آخر،بل إنه يحاربه في نفس الكتاب الذي ألفه عن الحب،فنراه يستشهد بالنصوص الدينية الذامة له والنتائج المترتبة عن تعاطيه ومساوئه التي حلت بالمماليك الأندلسية من خلال تصويره للحالة العامة لمجتمع القرن الخامس الهجري هناك.
لكن الرأي الأقرب نوعا ما إلى الصواب هو ما ذهب إليه طه الحاجري من أن الذي لا ريب فيه عنده هو أنه:”لابد من الحافز النفسي ولابد لهذا الحافز النفسي من الملابسات التي تملك أن تثيره وتبعثه من مكمنه،فإذا صح أن صديقه هذا كما يقول صديق قديم شاركه حق النشأة ومحبة الصبا فهما يشتركان إذن في ذكريات عهد النظارة أو في ذلك الكنز الذهني الذي يدره الإنسان في خياله ليرجع إليه”.
إن القول بالدافع النفسي المناسب للطلب الخارجي معقول وتوجد منه أمثلة في الفكر الإسلامي،وخاصة عند ذوي النزعة الإصلاحية كالغزالي مثلا،بحيث نراه يصف نفس الوازع الذي مال إلى اعتباره طه الحاجري وذلك عند تأليفه كتاب”فضائح الباطنية”فيقول:”ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم،فلم يسعني مدافعته وصار ذلك مستحثا من خارج ضميمة للباعث الأصلي من الباطن فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم”.
ونظرا لوجود هذا الباعث النفسي الكمين الذي جوزناه عند ابن حزم،مع الاستجابة للدافع الخارجي،فإن “طوق الحمامة” سيتسم بالصورة الخاصة به والمنعكسة فيه الآثار الذاتية له،كما يعبر عنها في هذه الكلمات:
“ودعني من أخبار الأعراب المتقدمين فسبيلهم غير سبيلنا وقد كثرت الأخبار عنهم وما مذهبي أن أنضي مطية سواي أو أتحلى بحلى مستعار”.
بل حتى هذا الباعث الذي سلمنا بوجوده قد كان غير ملح بالنسبة إليه،فهو يصرح بأنه لم يكن له استعداد أو ميول نحو هذه المواضيع في الظرف الذي ورد عليه طلب ذلك الصديق ويعتذر إليه بأن:”الكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب،وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني،فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار،والخلاء عن الأوطان وتغير الزمان ونكبات السلطان وتغير الإخوان وفساد الأحوال وتبدل الأيام وذهاب الوفر والخروج عن الطارف والتالد،واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد والغربة في البلاد،وذهاب المال والجاه،والفكر في صيانة الأهل والولد واليأس ثم الرجوع إلى موضع الأهل ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار،لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه وأعادنا إلى أفضل ما دعونا”.
كان هذا آخر ما كتبه في “طوق الحمامة” ،كتعبير صريح عن ضعف تعلقه بمثل هذه المواضيع من الناحية العاطفية،بل إن ما كتبه ليس إلا تذكارا واستدعاء لما مضى وبقي محفوظا في مخيلته،مما جعله يقدمه على شكل شغف وكلف بموضوع الحب كأنه حديث عهد به.
فمن المعقول القول إذن بأنه لو كانت العاطفة حاضرة ومتأججة عنده أثناء تأليف الكتاب لجاء فاسدا بسبب طغيانها،ولكانت المبالغة في التعبير هي السمة الغالبة عليه والطابع المميز له عن سائر الكتب التي ألفها لأن”حبك الشيء يعمي ويصم”.
نعم!قد لا يخلو الكتاب من حنين وشوق إلى ذكريات مضت كما يصرح بذلك مرارا،وأيضا لا يسلم من بعض مبالغات الشعراء وسجع الأدباء،إلا أن السمة الغالبة فيه كانت علمية أكثر منها أدبية،والمنهج العقلي والتجريبي أوفر حضورا من العاطفي واللفظي،كما سنراه في حينه تحليلا في دراسة مقبلة إن شاء الله تعالى.