العقيدة السلفية الوهابية وتأثرها الروحي والسلبي بابن قيم الجوزية
الدكتور محمد بنيعيش
أولا: اعتبار الروح جسما هو مبدأ الخلل في عقيدة المتسلفة
حينما نركز على تأثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، زعيم السلفية الحديثة، بابن قيم الجوزية أكثر من غيره فذلك لأسباب موضوعية وعلمية منهجية خالية من كل تعصب أو إسقاط، رغم أن ابن تيمية قد يعتبر أستاذهما الفكري والروحي والمؤسس لمذهبية ما يصطلح عليه بالسلفية (التاريخية).
إذ أن ابن قيم الجوزية قد كان فكره أكثر ميلا إلى السطحية المادية من تقي الدين ابن تيمية الحراني بالرغم ما لديه من كتب قد تبدو موغلة في الروحانية والمعاني الصوفية ولكن بتقليد اصطلاحي محض فيما نرى، كما أن تقارب فكره مع موضوع التجسيم والتشبيه الذي يتهم به الحنابلة المتأخرون قد كان أكثر إيغالا وتصريحا وخاصة فيما يتعلق بموضوع الروح وخصائصها، والذي تأثر في تصوره لها فيما يبدو بابن حزم الأندلسي الظاهري، بحيث إن ابن قيم الجوزية سيذهب إلى اعتباره جسما من الأجسام ولا يتميز عنها إلا بحسب الرقة والخفة والدقة كما يتوهم، وإلا فإنها تشترك معها في الماهية والحقيقة من حيث إنها جسم عريض طويل عميق، كما يذهب إليه في المسألة التاسعة عشرة من كتاب “الروح” الذي يروج له الوهابية بصورة مركزة.
وبالتالي فهو يذهب إلى تحليل السؤال الذي طرحه اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فيرى أنهم سألوه “عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلم فيها طوائف من الناس من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة”.
وبهذا فيكون ابن قيم الجوزية مجسما للروح الإنسانية ومتأثرا بالفلسفات المادية في تصوره، وبالتالي مخالفا لموقف السلف الصالح من مسألتها . ومن ثم فإن مخياله العقدي وكذا المتأثرين به كمحمد بن عبد الوهاب وأتباعه لن يكون سوى متلبس بالمادة وصورها، كما أن مسألة الوجدان والتجريد فلن يكون لهما وجود أو مكان في وعيهم وشعورهم. ومن ابن قيم الجوزية انتقل هذا التجسيم الأولي للروح إلى المتأخرين من الحنابلة وخاصة الوهابية ولكن بصورة جد ضيقة وذلك على المستوى العقدي والسلوكي، بحيث إنهم لم يفهموا من الآيات والأحاديث الخاصة بالصفات الإلهية إلا وجهها الظاهري والمادي اللغوي، فاستعملوا قياس التشبيه والتمثيل على وجه متناقض ومن نموذج الذي فهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر بخيط الثوب، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم، “عرضت قفاك” أو “أنت عريض القفا”، حسب الروايات في كتب التفسير . وهذا النوع من الفهم والتفسير المناقض للمعنى والحقيقة قد يؤدي حينما يتعلق الأمر بالنظر في صفات الله تعالى إلى الإلحاد والمروق وإلغاء العقل بصورة كلية ، وخاصة لدى ضعيفي التفكير والوعي بمفهوم التنزيه الحقيقي والمحكم الذي دلت عليه النصوص، كقول الله تعالى: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”.
فهم قد ينظرون إلى صفات الوجه واليد والعين وما إلى ذلك على وجه الحقيقة والتقسيم العضوي المشبه للصفات الإلهية وفصلها عن سياقها الذي وردت فيه، وبدون محاولة فهم معقول لمعانيها أو تفويض أمرها إلى علم الله تعالى والعدول عن إضافة تفسير ولو حرف واحد منها، وذلك حتى لا يختل المعنى والسياق الذي وردت فيه هذه الصفات .
ثانيا:تداعيات الخلط بين مقتضى الذات الإلهية والصفات عند المتسلفة
كما أن هناك مغالطة قد وقع فيها السلفية المتأخرون من الوهابية وغيرهم وذلك حينما يطرحون موضوع اليد والوجه والأعين وما إلى ذلك باعتبارها صفات ، لكنها على العكس من ذلك فإنها تدخل في حكم الذات ولا يمكن القول بأن اليد صفة أو الوجه صفة ،ولهذا فإثباتها على الوجه الذي يفهمه المتسلفون الوهابية بشكل مادي وحشوي ويدافعون عنه باسم الصفاتية هو مدخل إلى توسيع دائرة شبهة التشبيه لديهم كما ينعتهم به غيرهم من علماء التوحيد الذين يرون بأن التأويل الضروري في مثل هذه المسائل العقدية المقتضية التنزيه المطلق لله تعالى.
ولقد كان من الأولى بمدعي السلفية من الوهابية وما تفرع عنهم من الجماعات الإسلامية كمصطلح حديث هو الالتزام بما كان عليه السلف الصالح فيما قبل من قاعدة: “اقرأوها كما جاءت”، وهذا ما ركزنا عليه بدقة ولغة علمية رصينة في كتابنا “التجديد في دراسة علم التوحيد” فليرجع إليه من يريد زيادة إفادة.
وكنموذج على هذا النوع من الاعتقاد عند الوهابية أورد ما شرح به أحد حفدة محمد بن عبد الوهاب “باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة” من كتاب التوحيد “عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا يسأل بوجه الله إلا الجنة” فيقول: وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى، فإنه صفة كمال. وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات كسلبهم جميع الصفات أو بعضها، فوقعوا في أعظم مما فروا منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا”.
وهذا النموذج فيه الكفاية للدلالة على نوعية التفكير العقدي عند الوهابية وزئبقية تعاملهم مع النصوص الدينية، إذ من جهة يشبهون ومن جهة يدعون التنزيه ، وهذا تناقض صارخ وخلط فكري لا يدرك أصحابه انعكاساته وتداعياته كما يصرح شيخهم ابن تيمية في عدة اعتراضات له على المتكلمين بأن لازم المذهب مذهب، وهو ما وقع فيه نفسه وبعده مقلدوه.
ومن هنا فقد كانت لمحمد بن عبد الوهاب وأتباعه سلبيات سواء فيما يتعلق بالعقيدة في الله كما بينا باختصار أو فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم والأولياء والصلحاء من هذه الأمة، بحيث أصبح أعدى عدو لهم هو من يعلن شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأولياء الله الصالحين، إذ من خلال هذا الطابع المادي الطاغي على تصورهم في الروح يؤولون كل علاقة أو مناجاة أو تعشق من المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتواصل مع أوليائه بأنه يدخل في حكم الشرك والبدع والضلالات ، وبالتالي فقد أدى بهم تحجرهم إلى هدم الأضرحة ومقابر الأولياء والصحابة … والتي كانت تعتبر معالم ومشاهد تذكر الناس بالصلاح والتقوى، وذلك بدعوى الحيلولة دون وقوعهم في الشرك حسب توهمهم. وما هذا إلا نتيجة تصور الوهابية المادي وإسقاطاتهم على مفهوم الروح وتواصلها. وإلا فشدة محبة رسول الله وأوليائه والتوسل بهم هو عين التقوى والمحبة لله تعالى: و”المرء مع من أحب” كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ما عبر عنه البوصيري رحمه الله تعالى :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وباختصار شديد ومجمل وحتى نبقى في إطار الموضوعية والتزام أخلاق المناقشة فإن الرد على شبهاتهم العقدية ومواقفهم الروحية يمكن تلخيصه في المسائل التالية:
– مسألة حياة الأنبياء الروحية بعد موتهم وقصة الإسراء وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم لهم ببيت المقدس، فحياته بهذا الخبر أولى بالاستمرارية والحضور لأن أمته مازالت مستمرة بعده ومستنيرة بنبوته ورسالته.
– مسألة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب أبي بكر له على أساس الحياة الروحية كما في رواية البخاري “فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها” وفي رواية “اذكرنا عند ربك” أو كما قال.
– مسألة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وقوله “من رآني فقد رآى الحق فإن الشيطان لا يتكونني” رواه البخاري وفي رواية “من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي” وقد ذهب المفسرون والشراح إلى اعتبار اليقظة في الدنيا فإنه في الآخرة قد يرآه المؤمن والكافر والطائع والعاصي!
– مسألة التوسل بالنبي والأولياء: عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: ” اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فسقينا وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا” قال : “فيسقون” رواه البخاري.
والحديث فيه توسل بالنبي في حياته ومماته، لأن عمه جاء في هذا التوسل بمجرد الإضافة، ولأن المسألة جمعت النبي وآل بيته، كما أن المتوسل عمليا هو عمر لأنه هو الذي دعا وليس العباس، فجمع التوسل بين الحسنين تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته كوسيلة وتعهد لتحصيل واستمرار هذه الوصلة به صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لم يفهمه الوهابية ومن سار على وهمهم في هذا الباب!
– مسألة تواصل الأرواح واختراق الزمان والمكان من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف” رواه مسلم، وكرامة عمر بن الخطاب في قصة ” ياسارية الجبل!”.
– مسألة التصرف الحسي في الأرض وقصة سيدنا سليمان وآصف بن برخيا الذي كان له علم بالاسم الأعظم: “قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك” إذا التصرف بإذن الله تعالى، وهذا هو حال الأولياء وما يرد عن بعضهم من أخبار!
– مسألة العلم اللدني وخصوصية الأولياء المعرفية والادراكية من خلال قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر، وقول الله تعالى ” فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما”، “واتقوا الله ويعلمكم الله” صدق الله العظيم.