الناس والصيف والمشقوف ؟؟
الحبيب عكي
في الحقيقة وإلى يومنا هذا، أنا لا أعرف لماذا يسمي المغاربة وربما غيرهم من العرب، لماذا يسمون الهاتف المحمول ب”المشقوف”، وهو اسم اغرب ما يكون عن صنعه وتكوينه ومهامه واستعماله..، فالهاتف – كما نعلم – ثورة الإنسان المعاصر في الاتصال والتواصل، والسؤال عن الأحوال وتسيير الأعمال، واليوم التعليم عن بعد وصناعة المحتوى وممارسة الترفيه..، خاصة ما يرتبط به من مواقع وشبكات وما يثبت عليه من ألعاب وتطبيقات. ترى ما هو “التشقيف”؟، وأين يتجلى في استعمالات الهاتف؟، هل هو إيجابي أو سلبي؟، لماذا وقع الإدمان عليه وبشكل مفرط؟، ما أسباب ذلك وما ثماره أو أخطاره؟، هل يمكن التخفيف والخلاص منها ؟، ولما لا علاجها والوقاية منها ؟؟.
ربما يكون “التشقيف” هو ضد التثقيف، و”التشقيف” بمعنى “الشج” وإسالة الدماء من الرأس، قد يكون أصله أيضا من “الشقف” أي تلك الأداة الأساسية في تدخين “الحشيش”، ذلك المخدر الخطير الذي يحاول القوم اليوم التقنين لاستعمالاته الطبية و أغراضه الصحية، إن صحت نيتهم و سعيهم، وكيف يصح وهو الذي لم يسجل عليه طوال تاريخه المخدر غير أنه يغيب ضحاياه من المبتلين عن عالم الواقع والعقلانية ليسبح بهم أو على الأصح يغرق بهم في عالم الخيال المريض والأوهام السقيمة، والتي بوعي منهم أو بغير وعي يستلذها المتذوقون المدمنون إلى درجة يحسون افتراضها الحالم واقعا جميلا وهبوطها وهدمها صعودا وبناء لا يرضون عنه بديلا ولا عن تخلفه تحويلا؟؟.
“التشقيف” بهذا المعنى إذن وهم لا واقع، هدم لا بناء، تخدير لا صحو، تخلف لا تقدم..، ومن ذلك ما وقف ويقف عليه السوسيولوجيون في كل عصر وكل مصر من استعمالات “مشقوفية” في هذا الصدد ومنها:
بشر لا يجدون من يكلمونه أو يرافقونه في عالم الواقع، فيلجؤون إلى حديث ومرافقة الآلاف عبر العالم الافتراضي أولهم ذواتهم التي يرسلون لها من الرسائل ويجرون معها من الحوارات ما يتركهم أضحوكة الراشدين والقــاصرين في الشوارع؟؟.
مراهقون يقطعون طول أسفارهم من أقصاها إلى أقصاها، على متن مكالمات “مشقوفة” بينهم وبين “مشقوفاتهم” قد تنهي كل التعبئات وكل الاشتراكات، وتنجز طوال ليلها كل التمارين وتقرأ كل الروايات وتحكى كل الطرائف السمجة ولا تنتهي؟؟.
شركاء قد يجدون تعقيدات في علاقاتهم الحميمية مع شركاء حياتهم أو يتوهمونها، وسرعان ما يأسرون أنفسهم في عوالم “المشقوفات” ينشرون فيها غسيلهم بالصوت والصورة، و”روتينا” يوميا أقرب إلى الحمق بين ملايين من سكان العالم الأزرق يدعونهم معجبين ومتابعين وقد لا يعرفون منهم أحدا ؟؟.
تلاميذ وتلميذات لا يبذلون اللازم من المجهود في استيعاب الدروس ومراجعتها وإعداد امتحاناتهم ومبارياتهم فيستعملون “المشقوف” خلالها خلسة وجهرة لعله ينقذهم و لو ضدا على كل القوانين واللجن، فالمهم عندهم أن ينجحوا ولو بالغش ودون شرف ؟؟
سلطة وسلطات لا تحترم القوانين ولا خدمة المواطنين، فيصبح “المشقوف” لعبتها المفضلة وسط المكاتب وفي الاجتماعات، مدعية أن ما يطبعها من البيروقراطية و”البهدلة” للمواطن أو فئات منه إنما هي تعليمات لا عقليات ولا إمكانيات؟؟.
لكن يبقى السؤال، هل الهاتف الذكي أو الغبي، الثابت أوالنقال، هل هو في أصله وفصله، مصنوع بكل هذا السوء ولا يمكن أن يشتغل إلا بنشره وإشاعته وسط مختلف الفئات، كمثل البندقية – كما يقال – صنعت لتخرج البارود والنار لا الزهر والورد، وصنعت لتستعمل في الحروب والموت لا في الأفراح والأعراس؟، وهل هذا “التشقيف” أصلا منتشر في كل الفئات الاجتماعية وفي كل الدول المصنعة والمستهلكة؟، أم أن فئات من الناس وصنفا من الدول تمثلها للهاتف هو الخاطىء وبالتالي استعمالها له هو المنحرف المدمر الهدام؟. ويبقى السؤال، كيف حالنا إذا أصبح “المشقوف” “مشاقيف”، فالهاتف والحاسوب واللوحة والمذياع والتلفاز ..، كلها تسمى أيضا “مشاقيف”، و كما قلنا قد تكون هناك أيضا إدارة ومؤسسات وحكومة وسلطات مجرد “مشاقيف” تعمل على احتضان التخلف وتنميته أكثر من رصده ومحاربته رغم كل الشعارات ؟؟.
ويبقى السؤال أيضا، إذا كان للفرد الواحد منا “مشقوفا” أو “مشقوفين”، فكم عدد “مشاقيفنا” في العالم العربي؟،ولماذا أصبحت أداة استباحة الخصوصيات بدل أن تكون أداة محاربة الجريمة و تحقيق النهضة؟، كم تربح منا شركات الاتصالات العابرة للقارات دون جهد تنموي أو مواطناتي منها غير زيادة الأرباح؟، أين دور العلماء والخبراء في هذه المعضلة لتنمية الوازع الديني وتبيان الخطأ من الصواب في استعمال هذه التقنيات الانشطارية؟، أين الأسرة في غرس القيم وإعطاء القدوة في الاستعمال، وهي كلما أمرت أبنائها للابتعاد عن “مشاقيفهم” إلا وازدادوا بها تمسكا ولعبا وعبثا ؟، أين المدرسة والجمعيات و دوراتها التكوينية في تفتيق الوعي وإكساب مهارات فن الحياة وحل المشكلات واتخاذ القرارات؟، أين الحكومة في ما يمكن أن تقدمه للناس من سياسات عمومية تخفف عنهم مشقة الحياة وموجة الهروب الجماعي من الواقع المر نحو الوهم الحلو، وهو لا يفتىء يغرقهم في بحر اليأس والإحباط والتيه في الاستعمالات الوهمية والإباحية ل”المشاقيف” الملعونة، عفوا للهواتف التي أصبحت ذكية وتزداد كل يوم ذكاء بقدر ما يصيح الإنسان مدمنا على استعمالها دون ترشيد ولا حكمة ولا حكامة أو على الأصح باستهلاكية مفرطة وعبثية وغباء ؟؟.