سقفُ المواطنة، وطموحُ الديـموقراطية
كمال الدين رحموني
تُعتبر الاستحقاقات الانتخابية مظهرا جزئيا من مظاهر التعبير الديموقراطي التي ربِـحتْ رهانَه بعضُ البلاد المتقدمة قبل عقود، وليست الديموقراطية حصرا على محطات انتخابية تمرُّ مرورا سريعا، ثم لا تلبث تُكرّرُ نفسها بالآليات وبالوجوه وبالتنظيمات نفسها. وفي المغرب سعيٌّ حثيث يتدرّج عبر سلّمٍ “انتقال ديموقراطيٍّ” وليد، للوصول إلى عتبة مريحة تتجسد فيها الأدبياتُ والنصوصُ التي جاء بها الدستور. والناظرُ للتجاذب السياسيِّ، والتَّسابقِ الانتخابيِّ خلال عشر سنوات، لا يتعَب كثيرا ليقفَ على جملة من المعيقات التي تحول دون بلوغ السقف المرجوِّ من طموح الديموقراطية، على الأقل في مظهرها الجزئيِّ الذي هو الاستحقاقات الانتخابية. ولعل من أهم هذه المعيقات اضطرابُ الإرادة السياسة أو اختلالُها، وعدمُ القدرة على بلوغ التجاوب الطبيعي بين النص التنظيمي، والتفعيل الواقعيِّ لهذه النصوص، بالإضافة إلى الضعف الذي أصاب منظومة الأحزاب السياسة التي انتقلت من تأسيس التصور على الفكرة والمشروع، إلى “كائنات” انتخابية يعلو صوتها، لتُطلَّ برأسها عند كل محطة انتخابية. وحين تفتقر المنظومة الحزبية إلى التصور والفكرة، تفقد جزء مهما من مبرر وجودها، والأخطر، أنها تُسيء إلى تاريخها السياسيِّ، وتَسقط في الهوس بالتشبّث بالمظهر الجزئيِّ من الديموقراطية، حتى ولو كان وجودا شكليا يأبى أن يعترف بمرارة الحقيقية. هذا بالنسبة للأحزاب التي تمتلك تاريخا نضاليا، وكيف انتهى بها المطاف إلى الانسلاخ من هذا الإرث التاريخيِّ المشرّف الذي ظل صامدا خلال سنواتِ جمر ورصاص، وكلَّفَ رموزَهُ دماءً، واعتقالا، واختفاء قسريّاً، وضياعَ مصير، وصعوبةَ حياة. والعجب كل العجب، أن تركن مثل هذه الأحزاب وترضى بأمر واقع، هدفُه الأقصى الظفرُ بمقاعد انتخابية، وكأنها في ساحة سباق للخيل، أيّها يحقق الصدارة. ولسنا نعزو بعض أسباب المأزق الحزبي للذات فقط، بل هناك عوامل موضوعية ظلت تمارس الإصرار على الانزلاق بهذه التنظيمات إلى هذا الموقع الآسن، ودليل ذلك انخفاض منسوب الاقتناع لدى المواطن بمصداقية هذه “الكائنات” الحزبية، وكيف أصبحت في الوعي المغربي وجهين لعملة واحدة، لكنهما تـختلفان في الوظائف، إحداهما تـمارس السياسة بفعل سلطة التعليمات، والأخرى بفعل التماهي والرضى بالأمر الواقع، ولذلك يُعتَبر العزوفُ عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية مظهرا طبيعيا، لن تَـحُدّ من تناميه وَصْلاتٌ إشهارية جافة في القنوات الفضائية الوطنية، بقدر ما ينبغي التفكير بعمق في المآل الذي أدى إلى هذا العزوف، والإقرار بالأزمة السياسية التي تتحملها أطراف عدة، أولها الدولة بقدْرها ومكانتها، وثانيها الهامش السياسيُّ الذي تمثّلُه هذه الأحزاب التي تخلفت بأشواط كبيرة عن الاطلاع بمسؤولية التأطير والتأهيل السياسي. ومن مظاهر الاختلال في العملية السياسية أيضا، طبيعةُ التعاطي نفسه مع العملية السياسية، من حيث الوعيُ بالمفهوم الذي يتبناه الدستور المغربي، بمعنى، هل تمتلك الدولة مفهوما حقيقيا لتنزيل العملية السياسية، أم لازالت آلياتُ التعاطي السياسيِّ معها نُسخًا مُكرَّرة من حقبة عفا عليها الزمن، وتغيرت فقط آليات التنفيذ حسب طبيعة المناخ المحلي والدولي؟ إن تقييما متأنّيا للعملية السياسية ببلادنا، لا يَعدَم بعضَ الإنجازات بين فترتين من تاريخ المغرب الحديث بين عهديْ مَلكيْن، لكن غير الطبيعيِّ هو حضور الهاجس الأمني الذي يحيط بالعملية السياسية، وكم هي المحطات السابقة خلال عشر سنين مضت، تؤكد غياب النجاعة والجدية في التنزيل المطلوب لأدبيات الدستور الحالي. ولعل الشاهد على القول: هو فكرة التناوب على السلطة بين لحظة الحذر من “السكتة القلبية”، حيث كان الظرفُ التاريخيُّ يقتضي تمكينَ المعارضة من دواليب التدبير السياسيِّ من أجل انتقال سَلِسٍ للحُكم، وهوما حصل في أواخر حياة الملك الراحل وبداية الملك محمد السادس، رافقَهُ انفراجٌ مهم في مجال الحقوق استبشر الناس به خيرا، فلو استمر بالسرعة القصوى لانتعش مفهوم الديمقراطية، ولكان البلد قد تقدم كثيرا في مساره الديموقراطي مما هو عليه الآن. لكن حين ظل الهاجس المستحكم هو الحفاظ على السلطات والصلاحيات حتى مع إقرار التعديلات الدستورية، هنا تجدّدت تساؤلات طبيعية، من قبيل الانتقال الديموقراطي، والحرية، وحقوق الإنسان، ومدى امتلاك هذه المفاهيم الفاعليةَ اللازمةَ، أو بقائِها عناوينَ كبرى تستعمل عند الطلب، بغرض “الضبط” الداخلي من جهة، و”الاستهلاك” الخارجي من جهة أخرى.
هذا مدخل لا بد منه للولوج إلى صلب الموضوع، الذي نروم من خلاله طرح أرضية للنقاش حول واقع لا يرتفع، وسلطة ماضية في الحفاظ على ما تراه ناجعا من خلال الاحتفاظ بمواعيدها واستحقاقاتها الانتخابية، بعد أكثر من خمس وعشرين سنة، عرف فيها المغرب تجربتين سياسيتين، جسدها تياران متناقضان من حيثُ المرجعيةُ الثقافيةُ والسياسيةُ، أحدُهما حداثيٌّ علمانيٌّ، يعترف بالدين حقا شخصيا بين المواطن وربه، ويمتلك حريته في ممارسته من عدمها بمنأىً عن “إقحام” الدين في السياسة، وتيارٌ آخر يزعم لنفسه أنه يتبنى المرجعية الإسلامية، حتى ولو لم يَتَبَنَّها في تدبيره السياسي خلال عشر سنوات، مع العلم أنه عمليا يمتلك قاعدة ثقافية تضخّ فيه دماء هذه المرجعية إما حضورا باديا، أو قاعدة خلفية متوارية. وإذا كان الفاعلون السياسيون والمتابعون للشأن العام يختلفون في تقيم تجربة حكومة “العدالة والتنمية” خلال هذه السنوات إلى درجة التناقض بين دعاوى الإنجاز والنجاح التي “ينتشي” بها الحزب “الحاكم”، وبين الواقع الذي تترجمه وضعية البلد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإن مما لا يختلف فيه اثنان – ليس بدافع الولاء لهذا أو العداء لذاك- هو الحصيلة التي يرقبها المؤهَّلون من أهل الاختصاص في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع. ولسنا هنا بصدد الحكم على تجربة لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنّ المُزعجَ المُؤلمَ، هو أنّ تجربة الحزب “الحاكم” قد تضرّرت كثيرا هي نفسها أولا، وأضرّت بمن يشاركها المرجعيةَ الثقافيةَ وخيارَها السياسيَّ والدعويَّ، ممن يتبنى المرجعية الإسلامية التي تبشّر بالعدل والإنصاف والحقوق، وكأن هذه التجربة ” سنَّت سُنَّةً سيئة عليها وزرُها ووزرُ من عمل بها واقتفى أثرها” على الأقل خلال مدة الانتداب الحكومي. وبالعودة إلى الوراء قبل عشر سنين، حين قدّم الحزب “الحاكم” نفسه للناس “منقذا”، ليس من “سكتة قلبية” أو جلطة دماغية كادت تصيب البلد، بل من ربيع عربيٍّ أوشك أن يحمل إصلاحات إضافية، وجاء هذا الحزب يحمل شعارات مُغرية، من قبيل “محاربة الفساد في ظل الاستقرار”، و”الرغبة في الإصلاح”، يراهن على المشاركة بما هو مُستطاع حتى لا تقوم عليه الحجة، ويسلم من السؤال غدا، اختار أغلبيةُ المغاربة هذا الحزب بناء على حسن ظنٍّ، وثقة ٍكبيرة مكَّنته من الصدارة، ومن التدبير الحكومي الذي استمر لعشر سنوات. ولعل الثقة التي حازها هذا الحزب جزءٌ كبير منها، مرجعُه تشبُّعُ المغاربة الفطريُّ بقيم الدين اقتناعا، وممارسة، ومعاناة من حكومات سابقة لم تَفِ بوعودها، فكانت الأزمات تتوالى، فظنّ الناس أن هذا الحزب “الإسلاميَّ” سيقيم العدل، ويقوِّضُ آفةَ الفساد ويضرب بيد من حديد على أيدي من يستغلون مواقعهم من أجل الإثراء غير المشروع قانوناً، والتّهرّب الضريبي، والإفلات من العقاب، وغيرها من المصالح والامتيازات التي ورثوها كابرا عن كابر، وربما قد لا يتجاوز هؤلاء عشرة أو عشرين عائلة كبيرة تمتلك أكثر من ثمانين بالمئة من خيرات البلاد، فلمّا لم يُغْنِ الصبر، وكادت الأصابع تحترق بلظى تلك العائلات الكبيرة، كان الحائط القصير الذي لا يملك حولا ولا قوة، هو الذي يؤدي ضريبة “إصلاح” موهوم، جسّدته الطبقةُ المتوسطةُ رمّانةُ الميزان التي ظلت تحافظ على التوازن الاجتماعي للبلد، ( تمديد سن التقاعد، وتحرير صندوق المقاصة، وغيرها..)، في مقابل فُتات “يَـحْسِبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَـجِدْهُ شَيْئاً”، من قبيل الحديث عن مكافآت الأرامل وغيرها من لَمَمِ المكاسب. نتذكر -أيضا- أنّ مما راج قبل عشر سنين، قضية دعم “الإسلاميين” في الانتخابات، حيث ظلت تروج في ساحة المتدينين فكرة الإدلاء بالصوت بين اعتباره شهادةً يُسأل عنها أمام ربه فوجب عدمُ كتمانها: ” وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثمٌ قَلْبُهُ”، وبين من يعتبرها رأيا لا يمتُّ إلى المسؤولية الدينية بصلة، على اعتبار أن المواطن مُطالبٌ باختيار الأصلح علمًا وكفاءةً حتى ولو خالفَه مرجعيةً وتصورًا. فهل لازال هذا التساؤل يمتلكُ مُبَرِّرَ الحضور -اليوم- بعد تجربة الحزب “الحاكم”، ويظلُّ “ناظما” آسِرًا لكل متديّن، أم إنَّ من مفاهيم الانتماء الإسلامي الصحيح السليم، أن يختار المواطن من هو قادر على التدبير والتسيير، حتى لو اختلفت مرجعيته الدينية مع الفاعل السياسيِّ؟ إنّ البلد يمرّ بفترة صعبة لا يجرؤ بعض القائمين على التصريح بها، خاصة في خضم وباء “كورونا” الذي عَرّى كثيرا من الحقائق المهولة الاقتصادية والاجتماعية، سواء مما هو من اختصاص الدولة، أو ردائفها السياسية، ولذلك يحتاج الوطن اليوم إلى أرضية من قبيل “الكتلة التاريخية”، أو “الحركة الوطنية”، أو “الكلمة السّواء”، لتضافر الجهود، بصرف النظر عن مفاهيمَ ظل يتخندق حولها اليسار واليمين والإسلامي والعلماني، فتعطّلت بسببها كثير من الإنجازات، في حين تبقى قضية الهوية، والمرجعية، والبرنامج السياسيِّ والثقافيِّ اختيارا شخصيا، مادام الجميع يعيش تحت سقف واحد، هو سقف المواطنة، وما تمليه من الإحساس بالانتماء وتفعيل قيمها في نفوس المغاربة. آن الآوان أن تُرْكَنَ الخلافاتُ المرجعيةُ، والحساباتُ الصغيرةُ جانبا، ويُتداعى للتعاون لإنجاز أوراش كبرى لازال البلد يراوح مكانَه إزاءها، من قبيل العدالة، والتعليم، والصحة، والتشغيل، وضمان الكرامة، والمحافظة على الحق في التعبير، واحترام الخصوصيات. إن المغرب له من المؤهلات الكبرى التي تفتقر إليها بلدان أخرى تمتلك أضعاف أضعاف ما للمغرب من الثروة، لو أنّ النُّـخبَ السياسية بهذا البلد تجردّت من الذات، وارتفعت عن إغراء المصالح المادية والحزبية، فقد يتمكن البلد من أن يصبح رائدا بين بلدان العالم الديموقراطي.