خصائص الخلوة النبوية والمقتضيات الاجتماعية قبل الوحي
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
أولا: الخلوة والانعزال كباعث نفسي وتخصيص غيبي
مسألة خلوة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي لهي مرحلة جد دقيقة ومتكاملة بين الوعي والنزوع الإنساني وبين مقتضيات الخصوصية النبوية ذات الباعث الرباني والتعيين والترتيب الإلهي لتحقيق الرسالة بالوحي ووالخروج من حيز القوة إلى فضاء الفعل والممارسة نصا وتطبيقا وتطابقا وتناسبا وشرحا وانشراحا…
فالجمع بين الروايات في هذه المسألة قد يعطينا صورتين للخلوة النبوية بغار حراء :
الأولى : ستأخذ صورة العادة ،الجاري بها العمل عند قريش ،وهي ذات طابع روحي واجتماعي مستأنس به ومتعارف عليه، ألا وهو تحديد شهر معين، في الغالب يكون رمضان خصوصا، للتحنث والتبرر ،وهذا عمل مشترك بين النبيs وأبناء قومه، مما يدخل في حكم العادة ،والتي قد لا تنتج إلا ما هو متعود ومعلوم بالطبع بين المتعودين عليه ولا يتجاوزه إلى تجلي أو اقتناص معرفي غير معهود …
من هنا فقد جاء الوصف في كتاب “الرحيق المختوم” لصفي الدين المباركفوري بهذه الصيغة:”ولما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين،وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه،حبب إليه الخلاء ،فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة ميلين من مكة ،وهو غار لطيف طوله أربع أذرع،وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد،ومعه أهله قريبا منه فيقيم فيه شهر رمضان ،يطعم من جاءه من المساكين ،ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون…”.
أما الثانية :وهي الأخص ،فتلك التي ستأتي بعد مرحلة الرؤى الصادقة وظهور بوادر الخصوصية الروحية للتوجه النبوي نحو الخلوة المطلقة ،حيث ستجعله في منأى من أي اشتغال أو تشويش أو متطلبات ومساهمات اجتماعية ملحة.
أي أنها تمثل ميلا نحو التفرد والاستئثار بالمراد ،لا مدخل فيه حينئذ ،من قريب أو بعيد، للعادة ولا للأعراف الاجتماعية،وهو المنحى الذي سيتخذ صورة الاستمرارية والدوران مع الشهور السنوية لاستنفاذ الزمان العام ومسايرة حركته في هيئته كيوم خلقه الله تعالى ،كما وصفه صلى الله عليه وسلم به وهو في فترة وجوده وبعثته.
من هنا ستبرز دقة التعبير عند السيدة عائشة رضي الله عنها حينما وصفت هذه المرحلة من الخلوة بقولها:”وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه،وهو التعبد ،الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ،ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ،حتى جاءه الحق وهو في غار حراء “.
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخصص شهر رمضان لهذا الاعتكاف كما كان من قبل ،وإنما أصبح يختلي بمعاودة مكثفة وجموح ضاغط على أعلى مستوى مع الاستمرارية المتواصلة إلى ما لا انقطاع.
وكأننا به قد كان يشعر بقرب شديد لموعد هذا الفتح وإطلالته المشرقة على روحه ووجدانه يقظة لا مناما ،وصحوا لا سكرا.
وبهذا التفاعل فإنه يعطينا درسا كبيرا في البحث العلمي والصبر والسهر المتواصل للحصول على النتيجة المرجوة ،خاصة حينما تبدأ بوادر الاكتشاف تلوح في الأفق ،وثمرات الجهد قد أشرفت على البزوغ.بحيث قد يكون واجبا على العالم الجاد أن يسهر ويفرغ كل قواه لضمان استخراج المعدن النفيس أو سلامة المولود في حالة المخاض لضمان صحة التجربة وقواعدها العلمية ،وإلا فأية التفاتة أو تهاون عند هذه اللحظة التي فيها السحب والتركيز الأخير قد يضيع ثمرة البحث ويهدر التجربة برمتها .
فالنبي قد كان هنا ،فيما فهمناه أو نريد أن نبسِّطه،يسعى إلى أن لا ينقطع استمداده وتواصل واطراد تقدمه المعرفي في هذه الخلوة ،وكأنه لا يريد أن يشغل نفسه بقضايا اجتماعية أو مادية اقتصادية كيفما كان حجمها في هذه المرحلة الدقيقة ،لأن هذا بحسب المقاييس العادية قد يؤثر على مسيرته الروحية أو يصرفه جزئيا بوجه أو آخر عما هو أهم لديه وأضمن وأثمن،ألا وهو توطين الروح في موطنها الأصلي وضبط غايتها ضبطا لا تنفلت معه إشعاعاتها خارج دائرة مركزها بأية صورة.
وهذا الأمر سيعطينا درسا تربويا وعلميا في باب التكوين النفسي والعلمي بشقيه النظري والتطبيقي معا،مع ضرورة اعتبار الأولويات عند الممارسة.
كما سيؤكد ويرسخ في مجال الدعوة والعمل الديني ضرورة اعتبار الفردانية الشخصية في التكوين والتأطير قبل الانتقال إلى توزيع المهام والمشاركة الاجتماعية والمساهمة الاقتصادية العامة.
ثانيا: الخلوة بين الضرورة المعرفية والمتطلبات الاجتماعية
فالعمل الروحي إذن ،ونوعه ورسوخه وانضباطه ،هو السر في نجاح أية دعوة وأي عمل ذي ارتباط بالمجتمع وقضاياه التشريعية والتنظيمية والتواصلية بصفة عامة.
لكن هذا الإجراء بمتطلباته وأهدافه النبيلة لن يكون عشوائيا أو عبثيا أو أنه مجرد نزعة فردية ذاتية غير محصنة معرفيا وتوجيهيا متكاملا.
ولهذا فلا ينبغي اعتبار أن الخلوة المطلقة قد تكون خيارا صحيا وإيجابيا في كل الأحوال وبمطلق الدوافع والبواعث ،وذلك لما يمكن أن يعتري غير المحصَّن فيها من انزلاق نحو الهلوسات والأوهام وتداخل واضطراب الخيالات مما لا تحمد عقباه عند الاستنتاج ،كما قد تجعل صاحبها يقع في أمراض نفسية خطيرة لحد الجنون أو الانزلاق في مروج المجون وغيرها من الاختلالات العقلية والسلوكية المتناسلة عنها.
فالخلوة بغير إذن إلهي ،وبغير حساب علمي عددي ومعرفي موزون ومؤسس على عنصر الأستاذية والاستئناس الروحي صحبة وتواصلا حقيقيا لا وهميا ،قد تؤدي إلى فساد المزاج والتعرض لتغوُّل إبليس وأهواء النفس بشتى أنواع التضليل والتلبيس ،وهو ما قد ذهب إليه أغلب المحققين المعرفيين ،وخاصة أهل التصوف ،فرسان الميدان،حينما تعرضوا لموضوع الخلوة أو ما يسمى بالأربعينية وضرورتها في طريق القوم كمرحلة من مراحل السلوك،يمكن الاطلاع عليه بالتفصيل في كتبهم.
يقول أبو حامد الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” عن هذا الشأن:”وكرامات الأولياء على التحقيق هي بدايات الأنبياء،وكان ذلك أول حال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب :”إن محمدا عشق ربه”.وهذه حالة يتحققها بالذوق من سلك سبيلها ،فمن لم يرزق الذوق فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر معهم الصحبة حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقينا ،ومن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان،فهم القوم لا يشقى جليسهم،ومن لم يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقينا بشواهد البرهان…”.
كما أن الخلوة مع وجود تشويش نفسي أو اجتماعي قد تكون عائقا عن تحصيل المراد،وهو ما لم يكن يعاني منه النبي في هذه المرحلة ،أي أن أسباب التفرغ المعرفي والعلمي قد كانت متوفرة لديه مما سيؤهله للاستكشاف والوصول إلى النتيجة المرجوة والجلية كفلق الصبح وبأيسر الأسباب.
وهذا فيه أيضا درس وتوجيه منهجي لأهل العلم ولكل مريد للمطالب العالية،إذ السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها قد كانت حاضرة هنا بقوة في تدعيم هذا المسار المعرفي المتسامي للنبيs وذلك بتوفيرها له كل أسباب الراحة النفسية والمادية للتفرغ إلى ما هو مشغول به حتى يتم المراد ،والذي سيتحقق بإذن الله تعالى في وقت قياسي بالنسبة إلى كل متطلع إلى الحق من سائر الأنبياء والرسل والصديقين والأولياء.
وفي هذا السياق ،كتقريب للمعنى والمبتغى،أذكر قصة أبي حامد الغزالي وصورة اضطرابه في خلوته المشهورة بسبب الانشغال الاجتماعي وتشويشه ضرورة ،وبالتالي تأسفه وشكواه من نقطة الضعف هاته التي اعترضت سبيله حيث يقول:”ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن فعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن الرجوع إليه فآثرت العزلة به أيضا حرصا على الخلوة وتصفية القلب للذكر.
وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورة المعاش تغير في وجه المراد وتشوش صفوة الخلوة ،وكان لا يصفو لي الحال إلا في أوقات متفرقة،لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها فتدفعني عنها العوائق وأعود إليها فدمت على ذلك مقدار عشر سنين…”.
وعند هذه النقطة سيتجلى لنا بوضوح كيف يتحقق التداخل القوي بين ما هو روحي وما هو اجتماعي متعدد الأطراف والتجاذبات،إذ الفرد يريد الاستفراد والمجتمع يقتضي الاجتماع ،والجمع بينهما في أهداف مختلفة ومستويات متشابكة قد يتطلب آليات دقيقة للتكامل والتواصل وإلا فستضيع هوية الفرد وتتحلل خصوصية المجتمع.
وحيث إن النبوة أو الرسالة لم تأت لإهدار حق على حساب حقيقة فقد كان لابد من توفير التراضي التام القائم بين عنصر الفردية المطلقة والزوجية الاجتماعية ،حيث سيكون بطل هذه المرحلة وسراجها والقدوة للعالمين فيها هو سيدنا محمد رسول الله ونبيه صلى الله عليه وسلم وذلك بمعية زوجته سيدة أهل الجنة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها .
فلقد كانت هي من يهيئ له الدعم المادي (أو اللوجستي كما يحلو لمعاصرينا صياغته تعبيرا)ممزوجا بالمحبة والرضا المطلق .في حين قد كان هوs يتهيأ لنيل أعلى المطالب والترقي إلى أسمى الدرجات والمراتب:”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”،مجسدا بذلك ،عمليا، لحكمة :”كل عظيم وراءه امرأة” فأكرم به من رجل عظيم وأنعم بها من امرأة صدِّيقة ! .