وقفة مع النهاية المأساوية لثورات الربيع العربي في محطة تونس
محمد شركي
يتذكر العالم بأسره خروج الشعوب في عدة بلدان عربية رافعة شعارا واحدا تلقفه بعضها عن بعض وهو : ” الشعب يريد إسقاط النظام ” وكان ذلك بشكل عفوي حتى أن المفكرين اختلفوا في شأن تسميته حيث لم يقبل بعضهم وصفه بالثورات لأنها لم تتوفر على شروط المطلوبة في الثورات كما سجل التاريخ ذلك على حد قولهم ، بينما اعتبرها البعض الآخر ثورات لكنها بمواصفاتها الخاصة والمتميزة دون وجود من خطط لها أو من قادها ، وكانت الشعوب العربية هي المقررة والمخططة والقائدة . واعتبرها فريق ثالث أمرا مدبرا بليل كما يقال من طرف العالم الغربي لتغيير ملامح الوطن العربي بعد ما مرت عقود على وضعية ما بعد احتلاله . وشكك آخرون في هذا الأمر وردوه إلى عامل غضب الشعوب العربية وتذمرها من استشراء الفساد السياسي في بلدانها لكن لم ينكر هؤلاء استغلال القوى الغربية لهذا الغضب والركوب عليه لخلق واقع جديد في هذا العالم البائسة شعوبه لكن ليس بالمعنى الإيجابي للجدة .
وكما اختلفت أشكال ثورات الربيع العربي من حيث حدتها، اختلف تعامل الأنظمة معها ، وكان سبب اعتماد بعضها أسلوب الانحناء للعاصفة هو تسارع سقوط أنظمة شمولية راهنت على العنف والبطش في مواجهة ثورات شعوبها . وانقسمت أقطار الوطن العربي التي شهدت الثورات إلى أقطار أطيح فيه بالأنظمة لكن سادت فيها الفوضى والحروب الأهلية كاليمن ليبيا ، وانفردت سوريا بعدم سقوط نظامها لكنها لم تسلم من الفوضى والحرب الأهلية ، وكل هذه الأقطار تورطت قوى دولية وإقليمية في إدارة الحروب الأهلية فيها وقد جندت لذلك مرتزقة أجانب ، وإرهابيين يتاجرون بالإسلام ويمارسون العنف الأعمى باسمه. أما أقطار أخرى فقد شهدت تجارب ديمقراطية بعد سقوط أنظمتها كمصر وتونس ولكن اللعبة الديمقراطية في هذين القطرين لم تأت بما كان يريده الغرب وبما يوافق هواه حيث فاز حزبان لجماعتين إسلاميتين هما جماعة الإخوان المسلمين في مصر ، وجماعة النهضة في تونس ، وهو ما لم يستسغه الغرب بسبب مرجعية الحزبين . و معلوم أن الذي كان وراء فوز هذين الحزبين هو عدم ثقة الشعبين المصري والتونسي في أحزاب يمينية ويسارية جربت ،ولم تحقق إرادتهما في العيش الكريم والخلاص من الفساد السياسي، وهذا ما جعلهما يراهنان على أحزاب ذات مرجعية إسلامية عسى أن يكون أداؤها مخالفا لغيرها بسبب وجود عامل الدين الذي يحظى بالثقة والمصداقية ، ولا يشك في مقاصده السامية ،لكن القوى الغربية وقوى إقليمية لم تقبل بهذا خصوصا وأن تركيا عرفت تجربة حكم حزب ذي مرجعية إسلامية ناجحة في بلد علماني، فتطلعت إلى مثل تجربتها شعوب عربية إلى درجة أنها استعارة اسم هذا الحزب بصيغة أو بأخرى . وما لبث أول حزب ذي مرجعية إسلامية يفوز في مصر حتى بدأ التخطيط للانقلاب عليه عسكريا أمام سمع وبصر القوى الغربية التي لم تحرك ساكنا من أجل الدفاع عن الديمقراطية والشرعية التي تنصب نفسها وصية عليها في العالم . و لقد كان ما حدث في مصر درسا بالنسبة لحزب النهضة في تونس الشيء الذي جعله يتنازل عن الرتبة التي حازها في الانتخابات ، ويحاول أن يجد له مخرجا في ائتلافات فاشلة مع أحزاب تختلف معه في المرجعية، وكان ذلك إن صح التعبير شبه انقلاب عليه ، وهو ما انتهى به اليوم إلى انقلاب عليه لس دمويا كالانقلاب في مصر ولكن مؤشراته لا تبشر بخير ، والله أعلم بما ستؤول إليه الأمور .
ولا ندري هل سكوت القوى الغربية عن الإجهاز على تجربتين ديمقراطيتين في كل من مصر وتونس هو من أجل الحيلولة دون تكرار تجربة تركيا حيث استطاع حزب ذو مرجعية إسلامية أن يحقق فوزا في بلد علماني أم أنها تستهدف التجربة التركية نفسها من خلال منع تكرارها في الوطن العربي حيث توجد مصالحها وهي الطمع في مقدراتها وخيراتها التي تصنع رفاهيتها وتقدمها ؟
وذريعة القوى الغربية في رفض تجارب الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية هي محاربة ما تسميه” الإسلام السياسي “وهو إسلام الجماعات الإرهابية التي تستغل الدين لارتكاب جرائمها . والواقع أن قياس الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي تتبرأ من العنف والإجرام ، وقبلت خوض اللعبة الديمقراطية بقواعدها وشروطها المعروفة على الجماعات العنيفة والإرهابية يعتبر حيفا وظلما في حقها وإساءة إلى الإسلام الذي يحمل اسما يدل على السلم والسلام .
ولا تستقيم منطقا فكرة إنكار تغطية الإسلام باعتباره منهاج حياة لكل نواحيها بما في ذلك السياسة ، وفي نصوصه المقدسة قرآنا وسنة وما نتج عنهما من فقه وتشريع ما يثبت أنه كما يغطي كل جوانب الحياة يغطي جانب السياسة فيها، وهذا ما لا تقبله القوى الغربية التي تعتبر الاشتغال بالسياسة شأن علمانيتها وحدها والذي لا حق للدين عموما فيه ، ولدين الإسلام خصوصا .
ويجدر بالقوى الغربية اليوم وتونس تشهد مثل ما شهدت مصر من إجهاز على الديمقراطية والشرعية وحقوق الإنسان أن تراجع موقفها من مشاركة الأحزاب ذات التوجه الإسلامي في الحياة السياسية كما هو الحال في تركيا ، ويكون الحكم على أدائها بعد نهاية فترة حكمها دون أن تتعرض لضغوط من شأنها أن تعرقل أداءها . ولقد نصح الحسن الثاني رحمه الله النظام الجزائري لما فاز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات أن يسمح له بممارسة حقه في تدبير شؤون البلاد، ويكون ذلك هو المحك للحكم على نجاحه أو فشله ، وهو ما لم يسمح به النظام العسكري الجزائري يومئذ ، ورفضه كنصيحة من ملك ذي بعد نظر .
إن القوى الغربية اليوم مسؤولة مسؤولية مباشرة عن إنقاذ التجربة الديمقراطية في تونس التي صارت مهددة على غرار التجربة المصرية . ومعلوم أنه لا ينهي دوامة العنف في البلدان العربية التي تشهد حروبا أهلية طاحنة سوى الدفع في اتجاه ترسيخ التجارب الديمقراطية الحقيقية لا الصورية مع التزام من ينخرطون فيها بما تسفر عليه من نتائج مهما كانت ، وتكون العبرة باعتبار برامج الأحزاب لا باعتبار مرجعياتها، ويكون البقاء للناجح منها في تحقيق رفاهية الشعوب العربية مع المحافظة على هوياتها الوطنية وهويتها الإسلامية الجامعة .ومعلوم أن القوى الغربية لديها من قوة التأثير في الوطن العربي ما يجعلها تقدم خدمة للشعوب العربية إن كانت فعلا وصية على الديمقراطية والشرعية وحقوق الإنسان في هذا العالم .
فهل سيجد هذا النداء آذانا صاغية أو أنه سيبقى مجرد صرخة في واد لا صدى لها ، فيلقى شعب تونس الشقيق لا قدر الله مصير شعوب عربية لا زالت الدماء فيها تسيل مدرارا ، وفواجعها يشيب لها الولدان ؟؟؟