ارتهان الالتزام القانوني بالنموذج والتخليق السياسي
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
1 ) إن الخلل في الوعي السياسي بغياب التفكير أي عقلنة وخلقنة أو تخليق السياسة لا بد وأن ينعكس على الجانب القانوني والاقتصادي وما تنطوي تحته من قطاعات لا نستطيع حصرها في صفحات، لأنها تتطور بتغير المجتمع ونموه والضرورة المقتضية لتحديثه وتجديده.
إذ الجانب القانوني قد يبقى رهينا بالمشرعين والمقننين له، وهذا يرتكز بالأساس على التخصص العلمي والنبوغ السياسي في آن واحد، وبما أن كلا الجانبين قاصران وغير متخصصين، فإن القانون المنظم للوظائف الاجتماعية سيكون دائما شقصا، وسينزلق في متاهات الاعتبارات الذاتية والمصالح المشتركة بين فئات دون أخرى، فتكون سمته حينئذ هي التعديل تلو الآخر، ليس من باب مراعاة التطور والنوازل الاجتماعية والتقدم العمراني والصناعات وتنوع المهن والحرف، ولكن من جهة أن فئة ليس من صالحها أن يوظف القانون الماضي، فتستحدث الآخر في الحاضر، ثم تأتي الفئة الأخرى فتستحدث آخر جديدا وهكذا كإحدى أخطر سلبيات الأنظمة الديمقراطية كما يصطلح عليها، ومن هنا فلا تكاد تعثر على نظام قانوني قار له ثوابته مع فتح المجال لما يمكن أن يصلح للتعديل في حدود المشروع والمعقول، ولهذا كان التجرؤ سهلا على قانون الأحوال الشخصية في عدة دول عربية ودون الانتباه أو التركيز على خلل الإجراء القضائي بالدرجة الأولى، وذلك لأن فئة من النساء أو بعض الرجال في أحزاب أو منظمات معينة لم ترقها بعض الأحكام الواردة في القانون أو المدونات الخاصة بذلك، رغم أنها تستند إلى أصل شرعي غير قابل للتعديل أو الإقصاء، وإلى مبرر عقلي وواقعي يؤكد سلامة التطبيق، فكان السبب في هذه المواقف يرجع أساسا إلى اختلال القوانين الأخرى وعدم خضوعها في غالبيتها إلى منطق علمي وسياسي متخصص، فاختلت بذلك العدالة والإدارة والنظام الاجتماعي في شتى صوره ومجامعه، كما أصبح القضاء في وضعية مهلهلة يترامى المتقاضون في مجالسه بين الابتدائي والاستئناف والنقض والإبرام، أو ما يسمى بالمجلس الأعلى للقضاء، بحيث توجد تناقضات صارخة في الأحكام وتراجعات من الإيجاب نحو السلب وناذرا ما يكون العكس، فمرة يحكم لصالح شخص في الابتدائي ثم ضده في الاستئناف وأخيرا له في النقض والإبرام، كما قد يحكم ضده في الابتدائي ثم له في الاستئناف ثم ضده في الأخرى، وهكذا دون البحث في شأن القاضي ومتابعته قضائيا حينما يزل بحكمه رغم وجود البينة بين يديه صارخة وصريحة، لكن الشكلية الإدارية لا بد وأن يتسلى بتوظيفها حتى يسمى القضاء نزيها أو عادلا، بينما الأمر خلاف ذلك، إذ كثير من المظلومين ذهبوا ضحية هذه الدورية إضافة إلى غياب التحقيق عند القضاة وهو ما يقتضي معاينة القضية عن قرب ومتابعتها من ألفها إلى يائها، وإلا كان القضاء ارائكيا شأنه شأن العلماء الاسقاطيين الذين سبق الحديث عنهم، وهذه المعاينة لا تتم إلا عند الابتدائي بالدرجة الأولى، لكن المشكلة ليست في عدد الغرف وتنوع إجراءاتها ولكن في ساكن تلك الغرف وأحوالهم النفسية والأخلاقية وتكوينهم العلمي ونزعتهم الميدانية.
2) فمن أهم المبادئ لدى القضاة هي تحقيق المساواة بين المتخاصمين وعدم التأثر بالدوافع الشخصية نفسانية كانت أم مادية، كما يقول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون”
روى البيهقي وابن حزم أن أبي بن كعب ادعى على عمر دعوى في حائط فلم يعرفها عمر، فجعلا بينهما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم… قال: فتنحى له عن صدر فراشه.. وفي رواية: فأخرج له زيد وسادة فألقاها إليه، وقال: ها هنا يا أمير المؤمنين.. فقال عمر: جرت يا زيد في أول قضائك ولكن أجلسني مع خصمي… فجلسا بين يديه”
كما ينقل أن عاقبة بن يزيد القاضي كان يلي القضاء ببغداد للمهدي فجاء في بعض الايام وقت الظهر للمهدي وهو خال، فاستأذن عليه، فلما دخل استأذنه فيمن يسلم إليه القمطر (ما تصان به الكتب) الذي فيه قضايا مجلس الحكم واستعفاه من القضاء وطلب منه أن يقيله من ولايته، فظن المهدي أن بعض الأولياء قد عارضه في حكمه فسأله فنفى ذلك فقال: ما سبب استعفائك من القضاء؟ قال: يا أمير المؤمنين تقدم لي خصمان منذ شهر في قضية مشكلة وكل يدعي بينة وشهودا ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتلبث، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا وأن يظهر الفصل بينهما، فسمع أحدهما أني أحب الرطب فعمد في وقتنا هذا وهو أول أوقات الرطب، فجمع رطبا لا يتهيأ الآن جمع مثله لأمير المؤمنين وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي بدراهم على أن يدخل الطبق علي، فلما أدخلت علي أنكرت ذلك وطردت بوابي وأمرت برد الطبق، فلما كان اليوم تقدم الخصمان إلي فما تساويا في عيني ولا في قلبي!!! فهذا يا أمير المؤمنين ولم أقبل فكيف يكون حالي لو قبلت ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني وقد فسد الناس، فأقلني يا أمير المؤمنين اقالك الله واعفني عفا الله عنك”.
فهذه نماذج حية من المدرسة المحمدية الذهبية الخالصة تبين لنا وجه القضاة الأحياء وصحوة الضمائر لديهم في الأمة الإسلامية كما أنها تبين لنا مدى حضور الفكر العلمي والموضوعي المتزن عند تولي المسؤولية، حتى لا يصبح المنصب عبارة عن عبثية اجتماعية، والمتقلد له عبارة عن لص قانوني يحتمي بالبنود والمساطر ويقايض بالمال المجازر والمناكر. ويساهم في المظالم دون معاذير أو محاذر!
ومما يزيد الطين بلة في المجال القضائي والإلزام القانوني هو وجود شبكة المحامين وكثرة المزاولين لهذه المهنة بحيث يكادون أن يصبحوا على عدد الخصوم في المجتمع،تماما كما هو تعدد الأحزاب في البلدان (شبه ديمقراطية)، إضافة إلى غياب الالتزام بالتخصص في تناول القضايا واختيار الموكلين. وهذا من جهة مؤشر على وجود كثرة المظالم ومن جهة أخرى دخول مهنة المحاماة في كثير من الأحيان إلى دائرة الزبونية، واقتناص الفرص للربح المادي والنفعية الشخصية، حتى إن الأتعاب قد تتفاوت ما بين محامي وآخر، وربما قد تصل في بعض القضايا إلى أثمنة خيالية يستفيد منها المحامي أكثر من موكله، فيصير المصطلح حينئذ من معنى الوكالة إلى المؤاكلة أي أن المحامي يدافع عن صاحبه بصيغة مؤكّلي عوض موكلي، ناهيك عما قد يدور من مساومات بين بعض القضاة وهم كثير وبين المحامين حول قضية ما. وبالتالي يتحول القضاء إلى عبارة عن سمسرة وتصفية حسابات أو إلى حرب، والحرب خدعة، قد تستباح فيها كل الوسائل الممكنة للإيقاع بالخصم سواء كان ظالما أو مظلوما!
ومن الملاحظ أن كثيرا من المحامين ،وبدون تعميم ، من خلال ما يشعرون به من قدرة على الكلام والمراوغة في الخصومات أمام المحاكم قد تميل بهم أنفسهم إلى مزاولة العمل السياسي، لتوظيف تلك القدرات في استمالة حكم الجماهير وامتطاء جواد المناصب ذات الخاصية في اتخاذ القرارات، حتى لقد نجد غالبية زعماء الأحزاب السياسية من ذوي مهنة المحاماة التي أصبحت سلاحا ذا حدين، وهي دفاع عن المظلوم ودفاع عن الظالم في آن واحد وبالتالي دفاع من أجل ترسيخ الظلم وتبريره، وهذه بطالة فكرية وخلل أخلاقي لا يحتاج إلى تعليق!.كما أن التعميم هنا غير وارد ولكن الظاهرة أكيدة ولا ينكرها إلا معاند.