مقال: الأبعاد الاستراتيجية للأنموذج التنموي المغربي الجديد
الدكتور يـحـي خــالـفــي
يساهم المغرب في صناعة التاريخ العالمي باستمرار، ويبدو أن اللمسات الاستراتيجية الدبلوماسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة بالمغرب (النموذج التنموي الجديد) قد أزعجت أوربا بمعظم مكوناتها، وخاصة البلدان العظمى المهيمنة على الاتحاد الأوربي مثل ألمانيا وإسبانيا وفرنسا.
ومن المحتمل أن تدفع الاتحاد الروسي والصين الشعبية إلى التحرك بأوراقها الدبلوماسية والمخابراتية وحتى الاقتصادية لاستغلال أو مناهضة هذا المنعطف الجديد القائم زواياه على التحالف الاستراتيجي مع البلدان الأنجلوفونية مثل المملكة المتحدة وأستراليا ونيجيريا وجمهورية جنوب أفريقيا، وخاصة قطبها الأساس الولايات المتحدة الأمريكية، التي اعترفت مؤخرا بمغربية الصحراء مقابل تنازلات مغربية سياسية ودبلوماسية واقتصادية ومالية لا محالة، لكون الأنموذج الأمريكي يؤمن بالبعد المنفعي “البرغماتي” لمجموع علاقاته الخارجية، دون النظر إلى التداعيات الممكن تفجرها.
فإلى أي حد بلغت جرأة المملكة المغربية في خيارها الاستراتيجي الجديد؟
وما مظاهر وتداعيات هذا المنعطف الاستراتيجي لسنتي 2020 و2021 على المغرب؟
وما أبعاد انزعاج بعض بلدان أوربا الغربية والجزائر من الأنموذج الاستراتيجي الأنجلوفوني التنموي الجديد بالمغرب؟
وما ردود فعل المستعمرَين السابقَين فرنسا وإسبانيا؟ وما موقف ألمانيا وروسيا الاتحادية والصين الشعبية؟
وإلى متى سيستمر هذا النظام الدولي الإمبريالي الحالي في الهيمنة على العالم، وممارسة الضغوط الشرعية وغير الشرعية على القارة الأفريقية؟
وإلى أي حد ستصل حدة التنافس للهيمنة على المنطقة المغاربية وأفريقيا ماوراء الصحراء بين المغرب من جهة والجزائر وبعض دول الخليج العربي والدول الاستعمارية السابقة والصين الشعبية والو.م.أ من جهة أخرى؟
البعد التواصلي في الصراع المغربي ـ الجزائري (نموذجا)
تلعب وسائل الإعلام والاتصال في العالم دورا خطيرا في تعزيز أو تدمير قواعد التعاون بين الدول والأمم، فما تنشره وكالات الأخبار المسموعة والمرئية وكذا المكتوبة إلكترونيا وورقيا يظل صحيحا حتى يثبت العكس، مما يفسر تأثيرات المواقع الإلكترونية، وأخبار االثامنة مساءً مثلا على عقول المواطنين ومواقفهم في جميع البلدان.
إنها استراتيجية غسل الأدمغة المبنية مخابراتيا ونفسيا على مبدإ حماية الوطن، وضمان استمرارية المواطنة الحقة ظاهريا بغرس أفكار حماسية ووطنية في أذهان المواطن، مع التشكيك في تمتع الناس بحق المواطنة في العديد من الدول، اعتمادا على المنظومتين الإعلامية والتربوية، بحيث أضحت المدرسة مؤسسة سياسية وديماغوجية!، أما باطنيا فإنها تتغيى حماية الأنظمة القائمة المتشبثة بالسلطة، وإيهام المواطن العادي بمبادئ وقيم لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولا يخفى على أحد الصراع الإعلامي بين المغرب والجزائر منذ سنة 1962، أي منذ استقلال القطرالجزائري، بقرار من فرنسا التي وافقت على تنظيم استفتاء تقرير المصير بعد ضغوطات الو.م.أ والاتحاد السوفياتي ومنظمة دول عدم الانحياز، ودعم المغرب وتونس إعلاميا وعسكريا وماليا للثورة الجزائرية، وليس بفضل قادة وعناصر الثورة الجزائرية الذين كان أغلبهم بدول الجوار.
إن قنوات الإعلام والإعلاميين الجزائريين بجميع أطيافهم تقريبا يخضعون عن وعي أو دون وعي، لدعاية السلطة العسكرية مقابل بعض الامتيازات مثل حق التنقل والسفر خارج الوطن والاستفادة من مداخيل الوصلات الإشهارية، وكل صحفي تجرأ على الخروج عن هذا التيار الفكري المسطر مسبقا فمصيره السجن!. فلا يمكن لأي جزائري أن يقول إن الصحراء مغربية، وما دخل الجزائر في هذا المشكل، ولماذا تحاصر عشرات الآلاف من المغاربة الصحراويين بضواحي تندوف، وتحتضن جماعات مسلحة وتدعمها ماليا ودبلوماسيا وعسكريا، ونحن نصطف في طوابير طويلة بحثا عن مادة غذائية أساسية، أو لهتا لسحب بعض السيولة المالية في آخر الشهر عند أبواب الأبناك.
البعد اللغوي والثقافي
يبدو أن المنعطف الجديد لاستراتيجية الدبلوماسية المغربية لم ينحصر في ربط علاقات سياسية متميزة مع الأمريكان والإنجليز ــ إضافة إلى أستراليا ونيوزيلاندا ونيجيريا وأثيوبيا وربما جمهورية جنوب أفريقيا وكينيا مستقبلاــ فقط، بل تبرز إشاراته أيضا في المجال الثقافي والعلمي من خلال فتح مناقشات أكاديمية تروم دراسة سبل الانتقال بسلاسة من الاعتماد على اللغة الفرنسية كلغة أجنبية أولى إلى الارتكاز على اللغة الإنجليزية “التي أصبحت تنافس الفرنسية لاسيما في مجالات العلوم والاتصال والإعلام والاقتصاد”(1).
إن تدريس اللغة الإنجليزية في المستوى الابتدائي في التعليم الخصوصي، وابتداءً من المستوى الإعدادي في التعليم العمومي، والانتقال من مؤسسة أنجلوفونية عليا واحدة ممثلة في جامعة الأخوين بإفران إلى تبني نفس النهج بجامعة بنغرير شمال مراكش، وبكليات الطب والصيدلة قريبا، إضافة إلى فرض هذه اللغة على المرشحين للحصول على شهادة الدكتوراه، من خلال لغة المناقشة أو ترجمة الأطروحة (أو ملخص لها) أو إصدار مقالات، مؤشرات قوية على هذا التحول في المنظومة التعليمية والثقافية رغم دور “…اللوبي الفرانكفوني في المغرب الذي يمتلك نفوذا اقتصاديا وثقافيا وتربويا قويا… ويرتبط هذا اللوبي الذي يتشكل اليوم من مغاربة وفرنسيين بشبكة من المصالح مع فرنسا، تمكنه من بسط سيطرته على قطاعات واسعة في المغرب، تتجاوز الاقتصاد إلى الثقافة والتعليم والإعلام، وتشكل قوة سياسية تدافع عن مصالحها من خلال التأثير على القرار السياسي”(2).
وقد تضمن المشروع التنموي الجديد في المغرب فيما يخص قطاع التعليم مبدأ “الاهتمام باللغات الأجنبية، وإعطاء الأولوية لها، خاصة اللغة الإنجليزية”، وهي خطوة موازية للمشروع التنموي الوطني المنفتح على الأنموذج الأنجلوفوني، والتخلي تدريجيا عن النموذجين الفرنكوفوني والإسباني/اللاتيني رغم مخاطره (تهديدات إسبانيا وفرنسا خاصة). وما تأسيس جامعة محمد السادس للعلوم والتقنيات الخصوصية من قبل المكتب الوطني للفوسفاط بمدينة بنغرير قرب مراكش، واختيارها لمتابعة ولي العهد الدراسة بها إلا دليلا آخرَ على التوجه الأنجلوفوني الجديد للمملكة.
البعد التاريخي: مشاكل ترسيم الحدود الموروثة عن الاستعمار:
نفاق ما يدعى “قانون الإرث الاستعماري”
طُبق قانون الإرث الاستعماري في ترسيم الحدود بين الدول منذ استقلال بلدان أمريكا اللاتينية سنة 1810م، بيد أنه لم يكن ولم يصبح مرسوما قانونيا بالنسبة لجميع المستعمرات. ولنأخذ النموذج المغربي الذي جُزِئت أراضيه الواسعة لعدة قطع لكي لا تقوم للإمبراطورية المغربية قائمة من لدن الدول الإمبريالية الثلاث: فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، فقد ظهرت مستعمرات صغيرة ومنفصلة مثل طنجة الدولية، وطرفاية، وسيدي إفني، والساقية الحمراء ووادي الذهب، والصحراء الشرقية، والريف، وموريتانيا، ووسط البلاد.
وإذا ما نفذت جميع القوانين الدولية فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها كما ورد في مبادئ ولسن 14 سنتي 1919ـ1920 خلال مؤتمر السلام بباريس، فإن جميع بلدان العالم ستتشتت تقريبا، وستنشأ دويلات صغيرة لاحول لها ولاقوة. لذا نتساءل لماذا تم تجميع عدة قوميات في دولة واحدة مثل حالة يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا آنذاك؟ وتجميع قبائل وإثنيات متنوعة بالجزائر اعتمادا على القوة الاستعمارية الفرنسية؟. وبخلاف ذلك لماذا تم توحيد الألمانيتين سنة 1989م؟ وتوحيد قبائل الصحراء لكونهم جزءا لايتجزأ من التكوين الإثني العريق بوسط وجنوب وشرق المغرب، الذي يعود إلى فترة ترحيل يعقوب المنصور الموحدي لقبائل بني سليم وبني معقل وبني هلال العربية من أفريقية (تونس الحالية) إلى هذه المناطق الصحراوية الشاسعة الملائمة لحياة الرعي والتنقل لمعظم المهاجرين العرب؟
ألا تطالب اليابان باسترجاع جزر كوريل المحتلة من قبل روسيا الاتحادية حاليا؟، وتطالب الإمارات العربية المتحدة بجزر أبي موسى الثلاث المحتلة من لدن إيران؟ وتطالب الأرجنتين باسترجاع جزر الفولكلاند المستعمرة من قبل الأنجليز؟ ويطالب المغرب باستعادة سبتة ومليلية والجزر الجعفرية من إسبانيا والصحراء الشرقية من الجزائر؟.
أما بالنسبة للنماذج المضادة، فتتمثل في استرجاع الصين الشعبية لأراضيها تدريجيا ومنها مستعمرة هونغ كونغ البريطانية، ولازالت تطالب بجزيرة فرموزة أو التايوان أو الصين الوطنية حاليا، واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم واحتلالها لشرق أكرانيا، واسترجاع أذربيدجان لإقليم ناغورني كرباخ من أرمينيا مؤخرا.
أليست أمثلة تناقض مبدأ حق المحافظة على الحدود الاستعمارية، وتنفيذ مبدإ حق الشعوب في تقرير مصيرها؟.
إن المملكة المغربية ارتكبت خطأً استراتيجيا بالاعتراف بموريتانيا (الأرض المغربية منذ عهد المرابطين) دولة مستقلة قبيل انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي الأول بالرباط من 22 إلى 25 شتنبر 1969م بحضور 26 دولة ومنظمة التحرير الفلسطينية، إثر إحراق الصهاينة (اليهود المسَيَّسين والعنصريين والمتطرفين) للمسجد الأقصى، وارتكبت خطأً ثانيا بتغييب ربط الاعتراف بموريتانيا، بالتزام مؤتمر القمة الإسلامي ومنظمة الوحدة الأفريقية وهيأة الأمم المتحدة وإسبانيا وفرنسا بمغربية الصحراء المحتلة من لدن إسبانيا آنذاك، الشيء الذي أقرته جامعة الدول العربية بالإجماع سنة 1974.
البعد الاقتصادي
يعزى الخلاف الاستراتيجي بين المغرب والجزائر أساسا إلى الصراع حول
الزعامة في المغرب الكبير، التي أضحت من نصيب المملكة المغربية إثر التفوق الاقتصادي الهائل مقارنة مع دول المنطقة، “فرغم التداعيات السلبية لجائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) التي أدت إلى اختلال التوازن المالي للمغرب شأنه في ذلك شأن أغلب دول العالم، غير أن الاقتصاد المغربي حافظ في العموم على مقومات التعافي من أزمته مع بروز مؤشرات عن تحقيق معدل نمو إيجابي سنة2021 ، وذلك استنادا إلى عوامل عديدة على رأسها ظهور لقاحات ضد الجائحة، وتسجيل موسم زراعي جيد (2021) بفضل الظروف المناخية المواتية” (3).
وفي هذا السياق “أصدر المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن الذي يقدم استشارات للبرلمان الأوربي، تقريرا يحذر فيه من تنامي قوة المغرب الاقتصادية المتزايدة في شمال أفريقيا، ويطالب بمساعدة الجزائر لتدارك تخلفها ليتحقق التوازن بين القوتين (كما دافعت ابريطانيا العظمى على ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى ليظل التوازن قائما بأوربا بين القوتين الألمانية والفرنسية)، بحيث بلغت الصادرات المغربية الصناعية والفلاحية المتنوعة 1.3 مليار دولار مقابل 440 مليون دولار فقط أغلبها محروقات جزائرية سنة 2019، (أي ثلث الصادرات المغربية)، إضافة إلى انتشار الأبناك المغربية في معظم البلدان الأفريقية بخلاف الجزائر، كما تمكن المغرب من جلب استثمارات أجنبية قدرت ب 1.4 مليار دولار مقابل 146 مليون دولار فقط للجزائر (أي عشر ما استقطبه المغرب)”(4).
يبدو من خلال هذه المعطيات ذات البعد التحريضي من قبل الألمان مدى فشل المشروع التنموي الجزائري، المرتبط أساسا بتصدير المحروقات التي تمثل في المعدل 95% من مجموع قيمة الصادرات، وصرف معظمها في قطاع التسلح، ودعم الأذرع المسلحة غير الشرعية التابعة لها بجنوب البلاد بمحاداة الدول الحدودية (أي المغرب وموريتانيا ومالي والنيجر وليبيا)، وبالمقابل يتحسن المشروع التنموي المغربي باستمرار رغم مصاريف التسلح الباهضة الضرورية لتحقيق التوازن بالمنطقة المغاربية، وحرمان النظام العسكري المجاور من التفكير في أي مغامرة مسلحة.
البعد الطبيعي (المنجمي)
كما أن ضمانات المحافظة على الثروات المنجمية المغربية في البر والبحر قد اتضحت بشكل جلي في المناورات الجوية المغربية الأمريكية بالمنطقة الاقتصادية (البحرية) في الجنوب، حيث يتواجد جبل التروبيك الغني بالكوبالت والتيلوريوم والباريوم والليثيوم والفاناديوم والنيكل ومعادن أخرى وطاقات ستغذي الصناعات الإلكترونية والكهربائية في العالم مستقبلا، إضافة إلى التحكم في احتياطات العالم من مادة الفوسفاط الضرورية للزيادة في إنتاج الأراضي الفلاحية لمواكبة حاجة ساكنة العالم المتزايدة للغذاء، رغم المؤامرة الفرنسية.
البعد السياسي: تداعيات المنعطف الاستراتيجي التنموي المغربي الجديد
(صراع المغرب مع الأنظمة الإمبريالية)
تتغيى الدول الأوربية (الإمبريالية الجديدة) الراغبة في استمرار استغلال واستنزاف موارد البلد البشرية والمنجمية والاقتصادية والمالية، وفي مقدمتها فرنسا وإسبانيا وألمانيا وضع آليات فرملة عجلة التنمية بالمغرب، وإعادة التوازن الاقتصادي والتنموي بين بلدان المغرب الكبير، وتجنب انتقاله إلى المنظومة الأنجلوفونية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية (ومشاركة حليفتيها المملكة المتحدة وأستراليا)، التي وجدت التربة الخصبة لتحقيق الهيمنة على أفريقيا انطلاقا من المغرب، ومنافسة الدول الأوربية (الإمبريالية السابقة) ودولتي الصين الشعبية وروسيا الاتحادية. ويظهر أن المغرب يساير هذا التيار، ولو مؤقتا، بحكم ارتباطاته القوية بدولتي إسبانيا وفرنسا، وبحكم توارث السلطة من أبناء فرنكوفونيين بالأساس، يدافعون بكل قوة عن مستقبل أبنائهم الذين تخرجوا أو سيتخرجون من المعاهد والجامعات الفرنسية.
إلا أن واقع المنظومة التعليمية التعلمية بالمغرب يقفز بخطوات عملاقة نحو تغليب اللغة الأنجليزية، ليس في المستوى العالي فقط، بل أيضا في جميع مراحل التمدرس كما سبقت الإشارة إلى ذلك، غير أن الأمر المريب هو لغة التهديد والوعيد الفرنكوفونية بطرق مباشرة وغير مباشرة، وما اغتيال 23 رئيسا أفريقيا، وإسقاط عشرات الأنظمة منذ الستينات من القرن الماضي، آخرها نظام الرئيس ألفا كوندي بغينيا كوناكري المعارض لاستمرار الحبل السري مع فرنسا (أي التبعية الاقتصادية والمالية واللغوية) يوم 05 شتنبر 2021، إلا دليلا على قوة تغلغل الاستخبارات الفرنسية بمستعمراتها السابقة.
فهل يستمر المغرب في انعطافه الاستراتيجي الأنجلوفوني ويقاوم فرنسا وإسبانيا وألمانيا، أم يتأنى حتى يجد الدعم والحماية الكافيين من الو.م.أ والمملكة المتحدة وأستراليا.
إن النظام الدولي الإمبريالي الحالي المؤسس سنة 1945 (في مؤتمر سان فرانسسكو بالو.م.أ) لا زال متحكما في الرقاب وفي الدول، لذا يشعر الضمير العالمي بالخوف والإهانة حينما تتدخل البلدان العظمى مباشرة أو غير مباشرة في تغيير الأنظمة السياسية، أو التهديد بضرورة استمرار تبعية العالم الآخر لنفوذها وإلا عرقلت تنميته (تنفيذا لاتفاقيات ذلك الزمان المتمثلة في تقسيم مناطق النفوذ بين القوى العظمى؛ أمريكا اللاتينية للأمريكيين وأفريقيا للأوربيين وآسيا لليابانيين)، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ ألم يصرح رؤساء الو.م.أ في عدة مناسبات سياسية واقتصادية وحتى رياضية: “إما أنتم معنا أو ضدنا” لتهديد بلدان العالم؟.
ألم تبادر فرنسا إعلاميا ودبلوماسيا بتهديد المغرب من خلال برامج تليفزيونية لضرب أعمدة الاقتصاد المغربي وخاصة المكتب الشريف للفوسفاط بعد تخليه تدريجيا عن الأسلحة الفرنسية، وتبنيه النموذج الثقافي والاقتصادي والعسكري الأنجلوفوني مؤخرا؟ ألم تراوغ وتبتز المغرب والجزائر في قضية الصحراء المغربية بمجلس الأمن الدولي؟ إنها تتموقع فيما يعرف فقهيا عند المعتزلة “بالمنزلة بين المنزلتين”، فلا هي ضد أطروحة المغرب الوحدوية، ولا ضد أطروحة الجزائر الانفصالية، لذا استشرف المغرب استراتيجية جديدة بعيدا عن التأثير الفرنكوفوني، فما على المسؤولين الفرنسيين إلا الندم على نفاق سياساتهم الإمبريالية البراغماتية.
البعد الاستخباراتي: أبعاد دوامة حرب المواقع بين المغرب والجزائر
إثر انهيار أسطورة قَسَم الثورة (بالجزائر)
القائم على مبدإ ضمان البعد الاستراتيجي والقومي للجزائر بإقصاء النظام الملكي المغربي وإضعافه ومحاصرته من الشرق والجنوب والانفتاح على المحيط الأطلسي.
في المغرب “ما تزال قضية الصحراء تحتل مركزية هامة في هندسة السياسة الخارجية المغربية. فخلال سنة 2020، حقق المغرب انتصارات دبلوماسية غير مسبوقة في تاريخ النزاع المفتعل بينه وبين الجزائر … حول منطقة الصحراء، ومن ذلك الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على هذه المنطقة … ومن جهة ثانية، أثبتت هذه السنة الفعالية الكبيرة لاستراتيجية الحياد البناء للمغرب والتي تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ودعم المسارات السياسية في حلحلة الأزمات البينية، والتي يتبناها تجاه القضايا العربية، وخاصة الأزمة الليبية وأزمة حصار قطر (5).
ويعتقد المؤرخون أن صراع الهيمنة على أي إقليم ينتهي دائما بحرب دامية وحاسمة، كما حدث في العصور القديمة بين دولتي المدينة: أثينا وإسبارطا باليونان. إنه صراع الجبابرة الذي لاينتهي إلا بسقوط أحدهما وهيمنة الآخر، لكن الواقع الجيوـ سياسي في الفترة المعاصرة مختلف تماما، بحكم خضوع بلدان الكرة الأرضية إلى نظام عالمي منضبط بقوانين يصعب خرقها، وبميزان قوى مفروض على البلدان المتنافسة والمتناحرة من قبل الدول العظمى وخاصة المالكة لحق الفيتو بمجلس الأمن. ومن هذا المنطلق أعود إلى الحملة الانتخابية الرئاسية في الجزائر، التي أقسم فيها عبد المجيد تبون ثلاث مرات أنه سيبقى مؤمنا ومدافعا عن مبادئ الثورة الجزائرية! “القائمة على ركن واحد وهو العداء للمغرب ومحاربة أبعاده الاستراتيجية وأمنه القومي”، ويتضح جليا أن نفس الخطاب مستمر إلى حد كتابة هذا المقال.
سقوط الأساطير المؤسسة للزعامة الجزائرية
يبدو أن صراع الزعامة في المغرب الكبير قد انتهى بإعلان انهزام الدبلوماسية الجزائرية التي أقرت بعدم قدرتها على مقارعة سياسات المغرب الاستراتيجية، فدفعت دفعا للانسحاب عبر إعلان قطع العلاقات الدبلوماسية يوم الثلاثاء 24 غشت 2021، (والتي كانت مقطوعة فعليا منذ 1994)، ثم قررت إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المدنية والعسكرية المغربية، بعد استنتاج وإقرار مجلسها الأمني أنه فشل في مشروع خلق كيان جديد ومحاصرة المغرب من الجنوب، وإضعافه اقتصاديا وماليا ودبلوماسيا وعسكريا عقب اعتراف الو.م.أ بمغربية الصحراء وبداية التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل والمنظومة الأنجلوفونية، وليس بسبب اتهامات المغرب بالتجسس عبر منظومة بيغاسوس الإسرائيلية لأن كل الدول تتجسس على أعدائها وعلى مواطنيها، ومطالبته بحق تقرير شعب القبائل، أو التحالف مع إسرائيل لأن العديد من الدول صديقة الجزائر وتعترف بإسرائيل مثل دول الاتحاد الأوربي والو.م.أ مثلا.
تعزى قرارات حكومة العسكر المتتالية بالجزائر إلى الرغبة في إخفاء فشلها الداخلي والخارجي بعد انهيار تصوراتها الدبلوماسية الجديدة مثل موضوع طلب اعتذار المملكة المغربية الغريب وغير المقبول، وحتى في حالة إيمان هذا القطر بهذا المبدإـ الخرافة، فإن ملوك المغرب لم يعتذروا لأحد في تاريخهم الطويل منذ تأسيسس مملكة الأدارسة سنة 172ه/785م بفاس، ولن يعتذروا مستقبلا لأي قطر كيفما كان حجمه. وأتساءل إن كان في القاموس الدبلوماسي بالعالم مفهوم “تعتذر وإلا…”؟.
وطلب السلطة العسكرية بالجزائر المغرب بالاعتذار كل مرة يدل صراحة عن جهل تام للأعراف الدبلوماسية، وحتى إن وقع هذا الأمر تاريخيا عند البلدان المنهزمة عسكريا (أثناء عقد مؤتمرات الصلح مع أنظمة جديدة تابعة أو حليفة، كما حدث عقب الحربين العالمتين الأولى والثانية ــ حالة حكومة فيمار الألمانية نموذجا سنة 1919ــ).
ألا يجوز أنه من الأرجح أن يعتذر النظام الجزائري للمغرب عن طرد 350000 مغربي يوم عيد الأضحى سنة 1975 (فيما يعرف بالمسيرة السوداء)، ويعتذر كذلك عن خلق مشكل الصحراء المغربية واحتضان وتسليح جماعات إثنية مختلفة ومنها الجزائرية والموريتانية والأزوادية والمالية بضواحي تندوف (المغربية تاريخيا)، لمحاربة المغرب منذ 1975، وتعتذر عن أبواق الدعاية لأطروحة الانفصال في المحافل الإقليمية والدولية ضد المغرب، وما خفي أعظم، والدليل على ذلك تعرض المصالح المغربية في مختلف دول العالم، وخاصة في عمقه الأفريقي، للضرر مؤخرا، مثل تعطيل حركة التجارة مع موريتانيا بإغلاق معبر الكركرات، والانقلاب العسكري في غينيا كوناكري ضد الرئيس ألفا كوندي حليف المغرب القديم، ثم اغتيال سائقَين مغربيين بمالي، ومنع المجال الجوي عن الطائرات المغربية مؤخرا في محاولة لإضعاف العمق الاقتصادي والمالي المغربي بأفريقيا الغربية وشمال أفريقيا. وتود الجزائر ايضا إضعاف مشروع بناء أنبوب الغاز بين نيجيريا وأوربا عبر المغرب. وفي هذه النقطة نستحضر تخوف بلدان أخرى منافسة ومعارضة لوصول أنابيب الغاز إلى أوربا منها روسيا الاتحادية والو.م.أ.
نهاية حلم هزيمة المغرب عسكريا
يمارس النظام العسكري بالجزائر حربا إرهابية مشينة بالوكالة، بعد اقتناع مجلسه الأمني والقومي بسقوط أسطورة قسم الثورة البومدييني، واستحالة تدبير أزماته الداخلية، وكذا انتهاء مشروع هزم المغرب عسكريا بعد اتفاق “أبراهام”، مما يفسر لجوءه مؤخرا إلى منطق الجندي المهزوم، الفار من ساحة الوغى، والباحث عن ملجإ للاختباء والسكون حتى تهدأ العاصفة ويتوقف القصف، واعتماده أساليب المؤامرة وحرب العصابات، من قتل وإرهاب وشراء الذمم وتغيير الأنظمة بالقوة، كما ساد في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بافريقيا، بعد نهاية أسطورة مواجهة وهزيمة المغرب مباشرة.
ومن المؤكد أن النظام الجزائري مدفوع بقوة، بطرق غير مباشرة، من قبل الدول العظمى التي غاضها فقدان أسواقها الاستعمارية القديمة بافريقيا مثل إسبانيا وألمانيا وفرنسا المتحكمة في الأضواء (الأخضر والبرتقالي والأحمر)، بحيث يستحيل على النظام الجزائري اتخاذ أي مبادرة إرهابية دون ضوء أخضر، بسبب تحكم القوى العظمى وخاصة فرنسا وروسيا الاتحادية في أوراق الضغط على الجنرالات.
كما يمكن أن تلجأ المخابرات الجزائرية في تنفيذ عملياتها القذرة وغير الشرعية للذراع العسكري الذي توظفه بضواحي تندوف، أو الأذرع الأخرى العاملة في منطقة الساحل الشاسعة.
يعتقد بعض المحللين ــ الغافلين للتحولات الاستراتيجية بالمنطقةــ أن الأزمات المستحدثة في العمق الأفريقي، يمكن أن تتطور إلى اندلاع حرب مسلحة بين البلدين الجارين، لكن الحقيقة هي تغير ميزان القوى العسكرية والاستخباراتية، واستحالة انتصار الجيش الجزائري في أي مغامرة، ولو كانت صغيرة، حتى إن أخذ الإذن من داعميه، بوجود العتاد والاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية، وكذا خبرة واحترافية الجيش المغربي المجهز بالأقمار الصناعية والتكنولوجيا الرقمية والطائرات دون طيار (الدرونات). وقد توصل النظام العسكري الجزائري بتفاصيل هذا الاختلال في التوازن من روسيا الاتحادية وفرنسا، وتم تحذيره من الإقدام على أي تهور باعتباره نظاما شديد التهور والشوفينية (أمام شعبه وجيرانه).
لكن التساؤل المطروح هو: إلى أي حد ستنجح الاستراتيجية الجديدة لعصابة النظام العسكري الجزائري المعادية، المتمثلة في ضرب المصالح الحيوية للمملكة المغربية بأفريقيا والعالم؟ وهل بإمكانها زحزحة المواقع والمواقف إقليميا ودوليا؟
ألا يعتقد حكام قصر المرادية أنه بإمكان المغرب الآن استرجاع الصحراء الشرقية بالقوة وإعادة أبنائه المحاصرين والمضطهدين بضواحي تندوف دون مشاكل، وخاصة بعد قرار سلطات العسكر استغلال غار الجبيلات الغني بالحديد لوحدها (بواسطة شركة صينية)، رغم توقيعها معاهدة الاستغلال المشترك مع المغرب سنة 1972، والتفوق العسكري المغربي الجديد بعد عقد اتفاق أبراهام؟
ألا تقرأ الاستخبارات الجزائرية تاريخ المغرب العسكري وكيف هزم البرتغال في معركة وادي المخازن سنة 1578م، والعثمانيين في معركة وادي اللبن قرب فاس، وكيف طارد المدمرة الإسبانية واحتجز سفن الصيد السوفياتية مطلع الثمانينات، دون خوف من وصول التعزيزات العسكرية السوفياتية للصحراء المغربية آنذاك؟.
ألم يشارك المغاربة في تحرير القدس عهد صلاح الدين الأيوبي؟
ألم تمتد الإمبراطورية المغربية من نهر السنغال ومالي الحالية إلى وسط إسبانيا والبرتغال الحاليتين (الأندلس) وتلمسان في الغرب الجزائري عهد المرابطين، وصولا إلى طرابلس الغرب (غرب ليبيا حاليا) أيام الموحدين؟
ألم تكن المملكة الشريفة سببا من أسباب قيام الحرب العالمية الأولى إثر اندلاع أزمتي 1905ـ1906 و1911؟
ألم تكن المملكة آخر أرض احتلتها الإمبريالية الأوربية بأفريقيا، (باستثناء دولة الحبشة/أثيوبيا حاليا، حليفة المسيحيين الأوربيين ضد المسلمين، سنة 1935)؟
ألم يتجنب الملك الحسن الثاني اقتراح إنتاج الطاقة النووية الحربية لفرض قوة المغرب في شمال أفريقيا؟
خلاصة
تعزى سياسة المغرب الهادئة والسلمية إلى طبيعة النظام السياسي الملكي المستدام منذ قرون، الملتزم بالقوانين الدولية، والمعاهدات البينية، لذا لا تخشى الجزائر الأخطار من الجهة الغربية، وكل مشاكلها ستأتيها من الجهات الأخرى، وخاصة من الداخل بعد نهاية أساطير الالتزام بمبادئ الثورة، وقرب انتقال السلطة لجيل جديد يفكر براغماتيا، ويعلم علم اليقين ان نجاح وتنمية أي بلد مرتبط ارتباطا وثيقا بنجاح جاره، والأمثلة كثيرة ومنها تقدم إسبانيا والبرتغال بطلب من فرنسا بعد اندماجهما في مجموعة الاتحاد الأوربي سنة 1986.
إن الأبعاد اللغوية والثقافية والتنموية والتاريخية والطبيعية والسياسية والمخابراتية والعسكرية للمنعطف الاستراتيجي القومي والتنموي الجديد بالمغرب قد خلق الأحداث العالمية سنتي 2020 و2021، وزحزح التوازنات والمواقع بين القوى الإقليمية والعظمى، وغير المفاهيم المسبقة حول مظاهر ضعف وسكون المملكة المغربية التي كان يحسب لها ألف حساب في القرون السابقة، بكتابة تواريخ الانتصارات والبطولات إقليميا وعالميا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات:
1ـ موحى الناجي (باحث في اللسانيات)، مقال “لغة التدريس بالمغرب…الحاضر للفرنسية والمستقبل للإنجليزية، مجلة هسبريس الإلكترونية، بتاريخ 13 ماي 2019.
2ـ نفسه.
3ـ مصطفى العلوي، باحث في المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة – المغرب، يعرض التقرير خلاصة تركيبية لأهم الأحداث والتفاعلات التي ميزت الحالة المغربية سنة 2020.
صدر عن جمعية مجموعة التفكير الاستراتيجي، التقرير الاستراتيجي السنوي، الإصدار السادس، الحالة الجيو-استراتيجية للمنطقة العربية، الجزء الأول، بعنوان التقرير الاستراتيجي للمنطقة العربية، 2020.
4ـ عن تقرير للمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن
5ـ عن جمعية مجموعة التفكير الاستراتيجي، المرجع السابق، بعنوان التقرير الاستراتيجي للمنطقة العربية، 2020.
الدكــــتـــــور خــــــــــالــــفــــــي