صمود الصحابة والتأسيس لقواعد التغيير الاجتماعي وأحكام التاريخ
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب
(1 في بدء الجهر بالدعوة الإسلامية وعند المواجهة الأولى قد كان بإمكان رسول اللهs أن يخلص أصحابه الصديقين مما هم عليه في الظاهر من تعذيب ذلك لمعطيات ووقائع تثبت ذلك عمليا ، ولكنه لم يفعل وذلك لحكمة عالية وبعد ما بعده من بعد لا علاقة له بالتخلي أو الضعف عن النصرة، كما يروى عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال:”شكونا إلى رسول اللهs حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشك”أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة “.
يقول طه حسين فيما يناسب قصدنا من تناول المرحلة ويواكبه :” وكان التاريخ في ذلك الوقت كما كان في أكثر الأوقات أرستقراطيا لا يحفل إلا بالسادة ولا يلتفت إلا إلى القادة،وكان التاريخ كما كان في أكثر الأوقات ضنينا بخيلا ومستكبرا متعاليا،يحفل بالسادة في تحفظ ويلتفت إلى القادة في كثير من الاحتياط ،لا يسجل من أمرهم إلا ما كان له شأن أو خطر …
وكان ياسر من هؤلاء الدهماء فلم يحفل به التاريخ ولم يلتفت إليه ولم يصحبه في حياته الطويلة ،ولم يسجل غدوه على التماس الرزق ولا رواحه على أهله بما اكتسب منه، حتى كان يوم أكره التاريخ فيه على أن يلتفت إلى الدهماء أكثر مما يلتفت إلى السادة والقادة،وعلى أن يسجل من أمر ياسر وأمثاله من عامة الناس أكثر مما يسجل من أمر حلفائه من بني مخزوم وأمثالهم من الملأ والسادة من قريش .
في ذلك اليوم نظر التاريخ فإذا أحداث ضئيلة تحدث لا يكاد الناس يأبهون بها ولا يعنون بها،ولكنها لا تكاد تحدث حتى تخفق لها القلوب وتنفتح لها العقول وتضطرب لها الضمائر ،وحتى تعرف الدهماء نفسها وتشعر بحقها وتطمح إلى هذا الحق وتسعى إليه جادة لا وانية ولا فاترة ،وحتى يذكر الملأ من قريش كل شيء ،يرون المستضعفين في الأرض وقد سمت نفوسهم إلى أشياء لم تكن تنطلق بها ،ويرون الرقيق وقد طمحوا إلى الحرية واشتاقوا إليها،وهاموا بها وجعلوا يتحدثون فيما بينهم كأنهم ليسوا أقل من سادتهم استحقاقا للحياة ولا استئهالا للكرامة ،ولا ارتفاعا عما ينقص ولا تنزها عما يشين …
ونظر التاريخ ذات يوم إلى مكة فرأى فيها هذه الأحداث الصغار الكبار ،وسمع فيها هذه الأحاديث التي كانت تهمس بها الأفواه وتصيح بها الضمائر والقلوب والنفوس …”.
قلت : قد كان بوسع رسول اللهs أن يحسم المعركة وينهي المواجهة مع أعداء الدعوة بمجرد دعاء يخضعهم فيه بالجلال والإرادة الإلهية المعجزة كما قال الله تعالى(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) ،وهذه معجزة قهرية تخضع القلوب وتكسرها وترمي بها في مقام الذل والاستسلام مع الملامة والتوبيخ لعدم الاستجابة بالرضا ومعنى الجمال والإدراك طواعية وحرية.
2 ) لكن الرسول s قد كان حينئذ يؤسس للأمة والعالمين وليس لمرحلة زمنية ضيقة ورغبات وأحوال أفراد معدودين ومحدودين .ولهذا فكان مرة يظهر برداء البشرية العادية المتناسبة مع الواقع الأرضي والخاضعة لسنة التدافع والتمانع وحال الكر والفر والنصر والهزيمة والحرب السجال،تماما كما عبر عنه فيما بعد أبو سفيان لما سأله هرقل ملك الروم عن جملة نتائج الصراع بينهs وبين قريش :”فهل قاتلتموه ؟قلت:نعم.قال:فكيف كان قتالكم إياه؟قلت:الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه !”.
ومرة كان يفيض عليه الجلال ويتجلى فيه فيرعب الأعداء بمجرد النظرة أو الدعاء والوعيد اللفظي.وهذا السجال روحي قبل أن يكون ماديا وعسكريا لأنه يكاد ينطبق عليه حال ما يصطلح عليه عند الصوفية بالجلال والجمال أو القبض والبسط والفرق والجمع وما إلى ذلك من تعاقب .
ولقد تجلى هذا الحال بكل وضوح وواقعية في مواجهة أعتا أعداء الرسول s من كفار قريش،فكان على رأسهم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي ذي الشخصية المتناقضة في العداء والتحدي،أي أنه في بعض الأحيان كان يبدو شجاعا مستأسدا ،ومتهورا متحديا ومنتحرا ،وفي الوجه الآخر يظهر جبانا خوارا لا يكسو محياه، إن كان لديه محيا، إلا اصفرار الهوان والخسران والنكوص .
وهاتان الصورتان المتناقضتان في شخصية أبي جهل ستطفو في لحظة واحدة عند هذه الحادثة الفريدة من نوعها كما تروي كتب السير والحديث حيث:”قال يوما :يا معشر قريش إن محمدا قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم ،وتسفيه أحلامكم ،وسب آبائكم،إن أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر لا أطيق حمله ،فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ،فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم .فلما أصبح أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله ينتظره،وغدا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته ،وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل،فلما سجد عليه الصلاة والسلام احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه ،حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه من الفزع ورمى حجره من يده .فقام إليه رجال من قريش ،فقالوا :ما لك يا أبا الحكم ؟قال:قد قدمت إليه لأفعل ما قلت لكم فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل ،والله ما رأيت مثله قط هم بي ليأكلني فلما ذكر ذلك لرسول اللهsقال:ذاك جبريل ولو دنا لأخذه…”. وفي رواية مسلم :”فقيل له(أبو جهل) ما لك؟فقال:إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا و أجنحة.فقال رسول اللهs:لو دنا لاختطفته الملائكة عضوا عضوا “.كما أن نفس المشهد سيتكرر عند قصة الأعرابي الإراشي وابتياع الجمال .كما يقص ابن هشام:” قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشٍ بِإِبِلِ لَهُ مَكّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْل فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا. فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، فَإِنّي رَجُلٌ غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّي ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِك الْمَجْلِسِ أَتَرَى ذَلِك الرّجُلَ الْجَالِسَ – لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ – اذْهَبْ إلَيْهِ فَإِنّهُ يُؤَدّيك عَلَيْهِ.
فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ إنّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّ لِي قِبَلَهُ وَأَنَا (رَجُلٌ) غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ سَأَلْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدّينِي عَلَيْهِ يَأْخُذُ لِي حَقّي مِنْهُ فَأَشَارُوا لِي إلَيْك، فَخُذْ لِي حَقّي مِنْهُ يَرْحَمُك اللّهُ قَالَ انْطَلِقْ إلَيْهِ وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ قَالُوا لِرَجُلِ مِمّنْ مَعَهُمْ اتْبَعْهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ. قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ مُحَمّدٌ فَاخْرُجْ إلَيّ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ رَائِحَةٍ قَدْ اُنْتُقِعَ لَوْنُهُ فَقَالَ أَعْطِ هَذَا الرّجُلَ حَقّهُ قَالَ نَعَمْ لَا تَبْرَحْ حَتّى أُعْطِيَهُ الّذِي لَهُ قَالَ فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ. (قَالَ): ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لِلْإِرَاشِيّ الْحَقْ بِشَأْنِك، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَاَللّهِ أَخَذَ لِي حَقّي”.
والقصة ،و خاصة ما قبلها ،من أولها لآخرها تصور لنا مدى نذالة وجبن أبي جهل، بكل ما تحمل كلمة جبن وخوار من معنى .بحيث يكفي أن يأتي شخص لمواجهة الآخر وهو مولي ظهره إياه قد يسمى غادرا وخائنا ،وأسوأ منه أن يهاجمه وهو ساجد لله تعالى قد أسلم روحه وجسمه لعبودية الواحد الأحد.أي أن أبا جهل هنا قد كان رائدا لكل مظاهر الغدر والخيانة في هذا العالم ومثالا لمقام الجبن والشقاء في مقاومة مقام الثبات والحقيقة التي لا تزول بالوهم والتشويش.
فلقد كان طه حسين دقيقا ومحللا نفسيا جادا حينما خصص لأبي جهل فصلا أو عنوانا على هامش السيرة وصفه فيه ب”صريع الحسد”،حيث الحقد والبغض والجبن والتهور،والضعف والشعور ر بالدونية والنقص مع نزعة الانتقام وتمني زوال النعمة عن الآخر.وحينما لا تتحقق الأمنية الظلامية يقع الشخص الحاسد في صراع نفسي ودوامة شر لا خلاص له منها ،ستزداد غورا كلما ازداد الآخر فضلا ونعمة ونصرا.
إن أبا جهل قد فاض به الحسد فيضا وتوافق مع إبليس كل التوافق حتى أعلن عنه صراحة، مثلما أعلن إبليس حسده لآدم ولو على حساب مقامه وسعادته في الجنة وذلك حينما أبى أن يسجد له فوقع في وهم القياس المغالطي إلى أن قال 🙁 أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )،تماما كما روى البيهقي في حوار أبي سفيان والأخنس بن شريق وأبي جهل بعد استماعهم إلى النبيs وهو يقرأ القرآن إلى جانب الكعبة .حيث قال الأخنس لأبي جهل:يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟فقال:ما ذا سمعت؟تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ،أطعموا فأطعمنا ،وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا،حتى إذا تجاثينا على الركب كنا كفرسي رهان قالوا :منا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى ندرك هذه؟! والله لا نسمح به أبدا ولا نصدقه ،فقام عنه الأخنس بن شريق”.
إن مكر أبي جهل الإبليسي هذا لم يقتصر على الإيذاء الفردي المادي أو الاستفزاز والاستدراج للنبيs ،وذلك بالتنكيل بأصحابه على نحو فظيع لإخراجهم على عجالة إلى المواجهة المباشرة والتمهيد للإفناء الجماعي الحتمي بحسب منطق العدد والعدة . فمثل هذا التحريض المحض أو المعارضة بمجرد الحسد الشخصي قد لا تفي بالمقصود ، وربما ستلقى صدا استنكاريا من داخل الموالين له أنفسهم ،وبالتالي فلن يتحقق الهدف الرئيسي من الحاسد نحو محسوده ألا وهو إقبار دعوته في مهدها وإقبار الداعي نفسه.
لهذا فقد رأى أبو جهل،و بئس الرأي كان،أنه لا بد من اللجوء إلى إضعاف موقع الآخر الذي هنا هو صاحب الدعوة رسول الله s ،بالسعي إلى تصيد ما يمكنه من المتشابهات في خطابه أو حتى سلوكه الممتنع بثباته وأمانته على الجميع،تماما كما يفعل بعض الحكام الاستبداديين أو الدول الإمبريالية والاستعمارية،وذلك كي تؤخذ ،هذه الحيثيات بزعم العدو ،كذريعة سلبية ومنفرة ،طالما أن الدعوة عنده ،أي النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة مقتصرة على الخطاب والمقاومة باللسان في الدرجة الأولى ،وأيضا مرتكزة على تحمل الأذى من غير ركوب قارب التحدي والتجديف به عكس التيار في وجه الأعداء بواسطة السلاح والانتقام المادي قدر الإمكان…