هرولتنا المتهافتة نحو الفرنكفونية المتداعية..!!
المختار أعويدي
كنت أعتقد واهماً أنه ما زال للغة الفرنسية ما لها، من مكانة وشأن على مستوى الإنتشار والتداول والتمكين. برغم كل ما يلحقها اليوم من تآكل وإنهاك وتردي. حتى وإن كان ذلك في مستوى لا يرقى تماما إلى ما هي عليه تبعية وعبودية مسؤولينا وتعليمنا وإدارتنا وصحتنا وجميع قطاعاتنا، وطينة معينة من مواطنينا، لهذه اللغة الآيلة للإضمحلال، والمرتبطة في تاريخنا بالسيطرة والإستعمار والإستيطان والإستغلال والهيمنة.
كنت أعتقد أنه ما زال لها شأن يذكر، على الأقل في مستوى يحفظ لها شيئا من مكانتها المتآكلة، ويُبقي لها قسطا من عالميتها المتقهقرة المتهاوية. حتى زرت بعض البلدان داخل الإتحاد الأوربي وبعضها خارجه، وكنت مُعتداً واثقاً بما في جعبتي من رصيد متواضع من بعض المفردات والألفاظ الفرنسية، الكفيلة بالكاد بفك بعض طلاسم التواصل مع الآخر، وتبديد غيوم الإختلاف الحضاري معه، وبالتالي تيسير أبجديات وسبل التفاهم والتفاعل معه. حتى أدركت واقتنعت أن المتسلح بهذه اللغة أو ببعض تعابيرها، هو تماما كالمتسلح بسقط المتاع، الذي لا يُسمن ولا يغني من جوع. حتى وإن كان ذلك في حدود ما يسمح بالتواصل البسيط، الذي يرتبط فقط بما هو متداول ويومي، من دون الحديث طبعا عن مستوى اللغة العالمة، لغة الإبداع والبحث والعلم والمختبرات. فمن المؤكد أنها على هذا المستوى، هي في عداد اللغات المتراجعة والمتقهقرة إن لم أقل المُحتضرة، إن لم تكن الميتة فعلا، التي تنتظر مراسيم وسرادق التشييع والدفن، حتى وهي تفوز هذا العام بجائزة نوبل للآداب (Annie Ernaux). وذلك بالنظر لمحدودية البحوث العلمية التي تنشر بهذه اللغة وتراجعها، قياسا مع مثيلتها الإنجليزية. وكذا ضمور ما ينجز من مؤلفات إبداعية بها قياسا مع مثيلتها المذكورة.
ففي مدن كفيينا أو بودابيست أو إستانبول، قد تنفق وقتاً وجهداً لا يستهان به، في البحث بين السكان المحليين (محلات تجارية، أماكن سياحية، الشارع العام..) عمن يفهم لغة موليير أو على الأقل يرغب في التواصل بها، عله يبدد عنك سحب غموض اللغات المحلية، واستحالة فهمها وفك رموزها، ويجعلك تقضي ما أنت قاضٍ، من أغراض ومصالح وحاجات، لكن من دون جدوى أو أمل يذكر. فتيقن أنك قد تكون أشبه تماما بمن يبحث عن إبرة في كومة قش. لا لشيء، سوى لأن مواطني هذه البلدان لا يحفلون بهذه اللغة تماما ولا حتى بغيرها، بل لا يعيرونها أدنى اهتمام. برغم أن وطنها فرنسا يقاسمهم فضاء الإتحاد الأوربي، طبعا مع استثناء الأتراك غير المنتمين إلى هذا الفضاء. فهم جميعهم معتدون غاية الإعتداد ومعتزون بلغاتهم الوطنية المحلية بشكل عجيب، وحريصون على التواصل والتفاهم بها، حتى مع علمهم وإدراكهم أنها محدودة الإنتشار والتداول، لا يتجاوز مجال نفوذها بالكاد حدود تراب بلدانهم. عكس ما هو عليه الحال عندنا من إهانتنا وتهميشنا للغاتنا الوطنية لصالح لغة المستعمر.
والمثير أيضا هو ان الأمر لا يقتصر فقط على اللغة المنطوقة، لا بل ويشمل حتى ما يتعلق بلغة الإشارة والتشوير والإعلانات المختلفة. وعليه، فلا تعول وانت في سفر إلى هذه البلدان وربما غيرها كذلك، على ما في جعبتك ورصيدك من لغة موليير، فإنه حتما لن يفيدك حتى في العثور على مطعم أو محطة، إلا فيما نذر وعسر. فالهيمنة والهيبة والسطوة المطلقة للغات المحلية، بشكل فيه غير قليل من إصرار واعتداد واعتزاز كبير يُغبَطون عليه.
وحتى عندما يستحيل التواصل والتفاهم، وتتعذر لغة الإشارة والإيماءات، فلا أحد يتوسل بلغة ماما فرنسا، لأجل تبديد الغموض وتيسير سبل التفاهم، بل تكون السطوة للغة الإنجليزية، كملاذ أخير من غموض اللغات المحلية وعسر فك طلاسيمها، تعلو ولا يُعلى عليها كلغة ثانية. حتى انك من دونها أنت مُعرض للتيه والضياع التواصلي والتفاعلي المجدي مع الآخر. تماما مثلما حدث معي، لولا وجود ولدي العزيز أمين حفظه الله برفقتي، مما كفاني شر اللجوء والإحتماء بلغة الإشارة في التواصل هههه.
اما عن جدوى لغتنا الوطنية الجميلة، الواسعة الشاسعة الفسيحة، فهي لا تنفعك داخل هذه البلدان سوى في التواصل مع أبناء جلدتك من بعض السواح أو بعض التجار العرب، إذا أسعفك حظك في الإلتقاء ببعضهم، وقد لا يفيدونك في شيء. كما وأنها للأسف لا تنفعك حتى في افي الإهتداء إلى اجتياز مراحل ركوب طائرة داخل المطارات. وإن كان ذلك أحسن حالا في إستانبول عنه في باقي المدن المذكورة، بالنظر لوجود جالية واسعة من اللاجئين العرب بها، خاصة منهم السوريين، بالنظر للظروف التي يعرفها الجميع. ولا عجب في ذلك، فكيف تنتظر من لغة يتم تهميشها في عقر دارها، أن تنفعك في التواصل والانفتاح على العالم.. هيهات هيهات..!
إن هذا العزوف الواسع لبقية الشعوب عن التواصل بلغة موليير، والذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أنها قد أصبحت لغة منبوذة مهجورة ومهمشة، حتى في التواصل اليومي البسيط، وأحرى في مجالات البحث العلمي والمختبرات والإبداع.. يجعلني أشعر بكثير من الإحباط والتذمر، وغير قليل من الغضب، من هذا الإقبال والهرولة حد العبودية لمسؤولينا نحو هذه اللغة المتداعية. ورهْن إدارتنا وثقافتنا واقتصادنا، لا بل ولغتنا الوطنية وحتى تعليمنا وانتماءنا الهوياتي لفائدة هذه اللغة..! حتى قد أصبحت لغتنا الوطنية العربية أو كادت، أو ربما يُراد لها أن تصبح من دون موضوع ولا هدف. لا تصلح لغير الإستعمال في الصلوات والمساجد وقرض الشعر، كما لو أنها لغة فولكلور أو لغة أموات. بينما تبقى الهيمنة شبه كاملة للغة الإستعمار فيما سوى ذلك.
هذا في الوقت الذي تعتد فيه كل شعوب الأرض وتعتز بلغاتها، وتحرص على جعلها لغة العلم والتعليم والإدارة ومختلف المعاملات الإقتصادية والإدارية والتربوية، ليس فقط فوق ترابها وأراضيها، بل وكذلك داخل مؤسساتها وتمثيلياتها المنتشرة في أرجاء العالم، لا بل حتى فوق طائراتها المحلقة في أجواء العالم، وحيثما حطت في مختلف المطارات. فلا يمكنك على سبيل المثال لا الحصر، أن تسمع على جناح طائرات شركة النقل الجوي التركية Pegasus أو شركة الخطوط الجوية التركية، غير اللغة التركية لغة أساسية للتواصل والتفاهم من طرف طاقمها مع الركاب والزبناء، بينما تمثل اللغة الإنجليزية لغة ثانوية. مع علم هذه الشركات بجهل أغلب الركاب الأجانب للغة التركية. فهي بذلك تعمل على تسويق لغتها الأم وإيلائها المكانة الإعتبارية اللازمة التي ينبغي.
بينما للأسف لا زال بين أبناء جلدتنا من مسؤولينا من هم ممثلين للإستعمار، يكرسون ويفرضون على بلادنا ديمومة واستمرارية الخضوع للغته وثقافته، ويعملون على تسويقها بشكل يثير الدهشة. هذا بعدما كرست اتفاقيات إيكس ليبان المشؤومة نهب جزء من خيرات الشعب المغربي على مدى طويل من استقلال البلاد الشكلي.
هذا في وقت قامت فيه حتى بعض الدول التي كانت موغلة في الفرنكفونية، مثل الغابون، بنفض عنها غبار هذا الكابوس عن وطنها ومواطنيها اليوم، وراحت تبحث لأبنائها عن مصالحهم الحقيقية، فطلقت الإنتماء إلى الفرنكفونية، وأنضمت إلى تجمع الكومنويلث.
ورواندا التي تعتبر اليوم واحدة من النماذج العالمية للنهضة الوطنية السريعة، والتي تحقق نسب نمو هي الأعلى عالميا. لم تحقق كل ذلك سوى بعدما تخلصت من الوصاية الفرنسية وثقافتها ولغتها، ورسمت لنفسها مسارا وطنيا ناجحا، منفتحا على الثقافات الرائدة.
ومالي وبوركينافاصو اللتين قامتا بطرد آخر جندي فرنسي من ترابهما، لاقتناعهما بأن هذا الوجود العسكري الفرنسي، إنما يحرس ويحرص على مصالح فرنسا في نهب خيراتهما، تحت مبرر محاربة الإرهاب الذي تفتعله فرنسا وتحتضنه، لأجل تبرير بقاء قواتها العسكرية في البلدين. وهي خطوة مهمة في طريق التخلص من الوصاية السياسية والأمنية والإقتصادية وبالتالي الثقافية لفرنسا.
لقد بدأت الدول الإفريقية تدرك اليوم أن منتدى الفرنكفونية، ما هو سوى منتدى لتكريس هيمنة المستعمر الفرنسي. وإنه لا يعدو سوى أن يكون في عمقه، فضاء لترسيخ هيمنة استعمارية في حلة وثوب جديد لفرنسا، على مستعمراتها القديمة. فالعلاقات في إطار هذا التكتل، لا تعدو سوى أن تكون علاقة السيد الفرنسي بالعبيد الأفارقة. لا تنتج أفقا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا ثقافيا..
ولا يمكن لغير عاقل أن يتأمل العبث والتلاعب الذي تقوم به فرنسا فيما يخص القضية الوطنية، التي تتاجر بها بشكل فاضح، فيه مد وجزر يخضع لما تمليه مصالحها الاستراتيجية. علما أن هذا المشكل وغيره من المشاكل الترابية مع الجيران في وطننا، هو من إرثها وإرث إسبانيا الإستعماري سيء الذكر.
كما لا يمكن لغير عاقل أن يلاحظ ويتأمل ما تفعله فرنسا بالعلاقات بين الجارين المغرب والجزائر، من تأجيج للتناحر والتباعد والصراع بينهما، لأنه يخدم مصالحها. فتارة تدعم هذا الطرف على الطرف الثاني، وتارة أخرى تقوم بالعكس، مما يبقي على هذا العداء مزمنا، ويبقي على أحلام شعوب المغرب الكبير في الوحدة والتكتل، مؤجلة إلى أمد قد يأتي وقد لا يأتي. بما يكشف نية إبقائها لهذا النزاع مزمنا، حتى تتاجر به وفق مصالحها الاستراتيجية. وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد.
لا أفهم حقا ما الذي يجعل مسؤولينا، برغم كل ما فعلته فرنسا بوطننا خلال العهد الإستعماري المقيت، وما تفعله بنا اليوم من استغلال وتلاعب بمصالحنا الوطنية، يرتمون في أحضانها ويرهنون مستقبل البلاد بتكريس وتدريس التبعية لها في كل مجالات البلاد الحيوية، ولعل أخطرها وأسوأها التبعية الثقافية، التي تضرب أسس الهوية الوطنية في العمق.
لقد آن الأوان بعد كل هذه المدة الطويلة على الاستقلال الشكلي والوصاية الفرنسية الفعلية، أن تنخرط بلادنا في استقلال فعلي ثقافي علمي اقتصادي من الوصاية الفرنسية، وإعادة الإعتبار لثقافتنا وهويتنا وعلى رأسها لغاتنا الوطنية العربية والأمازيغية وبالتالي لتعليمنا. وكذا لاقتصادنا الوطني وإدارتنا وصحتنا وكل القطاعات المختلفة. فلم يعد في هذا العصر مكان للدول الضعيفة القابعة تحت التبعية المقيتة والحنين للإستعمار الغاشم.