النجاح و الهدر المدرسي … !!
إسماعيل فيلالي
الناجحون في امتحانات الباكالوريا 304 الاف و 068 و المغادرون للمدرسة الى الشوارع 334 الف و 664 تلميذ و تلميذة.
انطلاقا من هذه المعادلة الصعبة يبدو ان المدرسة المغربية العمومية تعيش وضعا ضبابيا غير منطقي و غير مستقيم بالرغم من الإصلاحات المتوالية التي تم إطلاقها لمواجهة اختلالات المنظومة التربوية ؛ ويأتي هذا الفشل نتيجة السياسات التي تم تسطيرها خلال العقدين الأخيرين للرفع من جودة المنظومة التربوية والتعليمية ، و منها البرنامج الاستعجالي الذي تم فيه تبذير أكثر من 50 مليار درهم ، دون تحقيق أي تقدم يذكر ، و من دون ملاحقة المفسدين الذين عاثوا فيه فسادا ، ومنها أيضا الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015/2030 التي التهمت الملايير دون الوصول إلى مبتغاها ، و ها نحن أمام خارطة طريق جديدة لإصلاح التعليم التي تمخضت عن المشاورات الوطنية حول المدرسة العمومية التي قامت بها الوزارة الوصية والتي تمتد من 2022 إلى 2026 ؛ و بالرغم من ذلك لا يزال الإصلاح لم يدخل بعد إلى أقسام الدراسة التي تخفي بين جدرانها مأساة حقيقية للتعليم ببلادنا ، و قد ازدادت الوضعية تأزما بسبب الاحتجاجات المستمرة للأطر التعليمية ؛ فتلاميذ المدرسة العمومية يعتبرون الضحية الكبرى لهذا الوضع المترّهل وهو ما يضرب مبدأ تكافؤ الفرص ويعدم كل أثر للمساواة التي تعتبر حقا دستوريا مقارنة بواقع تمدرس التلاميذ الذين يتابعون دراستهم بالقطاع الخاص .. وقد نتج عن هذا الوضع ارتفاع عدد المغادرين و المفصولين عن الدراسة أو ما يطلق عليه في الحقل التربوي بالهدر المدرسي الذي أصبح ظاهرة بنيوية و هيكلية تعد من أكبر المعيقات التي تعرقل تطور العملية التعليمية والتعلمية و التربوية بالبلاد ؛ وبالرغم من المحاولات التي قامت بها الوزارة الوصية لمواجهة الهدر المدرسي ؛ فإن الواقع يبقى مخالفا لكل الطموحات و الأحلام .. فالمعطيات الرسمية تشير إلى أن ما يقارب من مليون و نصف مليون تلميذ مغربي غادروا المدرسة خلال المواسم الدراسية 2019 / 2020 / 2021 / 2022 ، تضاف إليها 334 ألف و 664 تلميذا سيغادرون المدرسة الى الشوارع في هذه السنة ( 2023 ) حسب الإحصائيات الرسمية للوزارة ، موزعة بالفعل على مستويات التعليم الابتدائي و الإعدادي و الثانوي … من خلال هذه الأرقام المخيفة يبدو أن الهدر المدرسي في تصاعد مستمر و الرقم يعدّ كبيرا بالنظر إلى أن المغرب يرفع منذ سنوات إجبارية التعليم و يرفع شعار الجودة و الحكامة وحسن التدبير ، أرقام يجب أن تؤرق المسئولين على تسيير الشأن التعليمي و على رأسهم وزير التربية الوطنية و مديرو الأكاديميات و المديرون الإقليميون و يدفعهم إلى البحث عن الحلول الملموسة و اعتماد المقاربات التربوية الجديدة و التدابير الفعالة للحد من هذه الظاهرة التي لن يستقيم معها إصلاح التعليم … نعم ، هناك أعطاب كثيرة تعرفها منظومة التربية والتكوين على مستوى التدبير المالي و الإداري و التربوي ؛ لكن الخطير فيها هو هذه الظاهرة التي يغادر فيها ” أطفال المستقبل ” المدرسة و يحالون على الشوارع لمواجهة الواقع المرّ و مشاقّ الحياة في وقت مبكر من حياتهم الشقية ، فقد كشفت مذكرة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط مؤخرا أن عدد الأطفال النشيطين المشتغلين بالمغرب خلال سنة 2022 بلغ 127 ألف طفل تتراوح أعمارهم بين 7 و 17 سنة يتوجهون كل صباح إلى الشغل عوض المدرسة ليتم استغلالهم أبشع استغلال … كما أن العديد منهم الذين لم يجدوا عملا ، و لو كان شاقا ، يكون مصيرهم الانحراف وارتكاب الجرائم ، أو البحث عن ركوب أمواج الموت للوصول إلى ( فردوس أوروبا ) ، و الأخطر في الأمر هو أنهم سيعودون لمضاعفة أرقام الأمية لتغيب عنهم أبجديات الكتابة والقراءة التي بالكاد تعلموها ؛ و قد جاءت نتائج تقرير الجمعية الدولية لتقييم الأداء التربوي ، التي يشارك فيها المغرب بانتظام منذ سنة 2001 ، جد صادمة حيث احتل المغرب المرتبة ما قبل الأخيرة في تصنيف القراءة والفهم حيث ثبت أن 59 % من التلاميذ المغاربة لا يحسنون القراءة … !!
إن ارتفاع عدد المفصولين والمنقطعين عن الدراسة هو خير دليل على هذا الاعوجاج الذي تعرفه المنظومة التربوية ؛ فالتلميذ هو محور العملية التعلمية و التعليمية و قطب الرحى فيها ، فإذا لم تستطع المدرسة احتضان التلاميذ فلا حاجة للحديث عن الجودة و الحكامة و حسن التدبير و لا حاجة لتوقيع عقود نجاعة الأداء من أجل ترسيخ منهجية الحكامة ، لا حاجة لنا لتحديد سن اجتياز مباراة التعليم ، لا حاجة أيضا للحديث عن نجاح القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي و مخرجاته ، و لا حاجة لنا للرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم و لا حاجة لنا لخارطة الطريق لإصلاح التعليم و لا مجال للحديث عن تحسين الخدمات بالمدرسة العمومية إذا لم تعط الأولوية لمعالجة هذه الظاهرة التي تهم مختلف مكونات المجتمع و مستقبل البلاد بصفة عامة لأن العبرة بالنتائج و ليس بالكلام …
إن مسؤولية ولوج الأطفال إلى التعليم هي مسؤولية الدولة أولا ، التي يجب عليها أن توفر بنيات الاستقبال الجيدة والموارد البشرية الضرورية الكافية والمؤهلة ، و اتخاذ الإجراءات المرتبطة بتحقيق العدالة المجالية من بناء داخليات و مدارس جماعاتية ، موزعة على عموم قرى و بوادي المملكة ، لأن هؤلاء التلاميذ هم ضحايا السياسة التعليمية الفاشلة المتبعة ، كما يجب التحقيق في الأموال الطائلة التي تنهب من تحت الطاولات من لدن المسئولين عن القطاع ، حيث إن نهب الأموال بطرق ملتبسة هو ديدن الكثير من ضعاف النفوس والملهوفين الذين أصبحت روائحهم تزكم الأنوف ، حيث انتشرت ظاهرة الإكراميات من لدن الممونين و المقاولين في كل توقيع على مصاريفهم من الآمرين بالصرف الذين لهم أحلام يغطيها سقف من الطموحات الشخصية و الفوز بالمال و المناصب ، و لا يهمهم إطلاقا مصير هؤلاء التلاميذ ليبقى مستوى المسؤولية دون الصفر ، و دار لقمان على حالها إلى إشعار آخر … أضف إلى ذلك التعويضات الجزافية التي يتقاضاها كبار المسئولين في القطاع آخرها الضجة الكبرى التي عرفتها دهاليز الوزارة وتعويضات مديري الأكاديميات والمديرين الإقليميين ورؤساء الأقسام والمصالح التي تقدر بالملايير ، لو تم استغلالها لمعالجة الظاهرة لما كنا نعيش هذه المأساة …
إن تفعيل المبدأ الدستوري الذي يقضي ربط المسؤولية بالمحاسبة يجب أن يبدأ من هنا ، فكل مسئول وطني أو جهوي أو إقليمي لم يجد حلولا لهذه الظاهرة يجب أن يحاسب .. لأن المؤشر الحقيقي للحكامة الجيدة وحسن التدبير و تحمل المسؤولية هو أن يضمن كل أبناء المغرب مقعدا لهم في المدرسة تبعا للاتفاقيات المتعلقة بالحق في التعليم التي صادق عليها المغرب ولم تجد طريقها إلى التفعيل كما هو مطلوب ، خاصة بالنسبة إلى الأطفال المنتمين إلى الطبقة الاجتماعية الهشة والتي ثبت أن 10% منهم لا يلتحقون بالمدرسة إطلاقا ….
إن إصلاح التعليم يجب ألا يكون مجرد كلام ، تمحوه المناصب السياسية المتعاقبة و التعويضات المالية السمينة ، بل يجب أن تكون لنا القدرة على العمل الصادق و الخلاق و المبدع ، وأن نكون على قدر عال من المسؤولية تجاه العلاقة التي تربطنا بهذا الوطن و بأبنائه ، وبقدرتنا على حماية المدرسة المغربية التي تعتبر مشتلا لجيل المستقبل الذي سيتحمل مسؤولية هذا الوطن ….فحق التلميذ في الاستفادة من التعليم في إطار المساواة وتكافؤ الفرص يجب أن يكون أولوية حقيقية و نتيجة حتمية لكل إصلاح حقيقي لان هذا هو المبدأ الذي يكرّسه دستور المملكة و الذي يجب أن تعمل الوزارة على تثبيته على أرض الواقع حتى يتوافق مع النموذج التنموي الجديد والدولة الاجتماعية الموعودة …. !!