لماذا خص الملك الجهة الشرقية بخطاب؟ قراءة في دلالات وأبعاد خطاب 18 مارس 2003 بوجدة
عبد السلام المساوي
كتب الأستاذ المقتدر بنيونس المرزوقي يقول :
“خطاب ملكي من 3368 حرفا.. تُشكل في مجموعها 613 كلمة.. تم إلقاؤها في 7 دقائق.. نقل الجهة الشرقية من منطقة بالمغرب “غير النافع” إلى صلب البرنامج التنموي الإستراتيجي المتوسطي.. كان ذلك بوجدة في 18 مارس 2003.. خطاب ملكي جاء في ظل خصوصيات السياق والظروف بالجهة الشرقية (المحور الأول).. ويُشكل في حد ذاته خصوصية من حيث الشكل والمضمون (المحور الثاني).. ووضع مبادرة للتنمية تتميز باستعمال قاموس تنموي واضح من خلال المفاهيم والمصطلحات المستعملة (المحور الثالث).. ينبغي أن نستخلص منه دروسا ذات أيعاد وطنية وإقليمية (المحور الرابع).. قبل ختم الموضوع.
المحور الأول: خصوصية السياق والظرفية
جاء الخطاب الملكي في خضم سياق وخصوصيات.. أشير من بينها إلى خمسة (5):
أولا، سياق الجولات الملكية الهادفة للاطلاع المباشر على الأوضاع في مختلف جهات المملكة.. يتعلق الأمر بزيارات سماها صاحب الجلالة في خطابه بوجدة بـــ “الوقوف الميداني”.. زيارات كان للجهة الشرقية نصيب وافر منها..
جاء الخطاب الملكي في سياق سلسلة من الزيارات الملكية المكثفة للجهة الشرقية بلغت 26 زيارة.. نعم 26 زيارة.. ولنتذكر أنه لغاية 28 يناير 2008 فقط، وضع صاحب الجلالة 252 بصمة ملكية في الجهة الشرقية همت مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والبيئية.. وخاصة على مستوى البنيات التحتية؛
ثانيا، سياق تميز أيضا بدينامية كانت تعرفها الجهة بخصوص إعداد مخطط التنمية والتهيئة للجهة الشرقية.. مخطط كان للجهة قصب السبق وطنيا في إنجازه بحكم عدم تغير حدودها عند الانتقال من نظام الجهات السبع إلى نظام الجهات الستة عشر كما سنرى أدناه.. وتمثلت تلك الدينامية في مواكبة الهيئات الأكاديمية والعلمية، وجمعيات المجتمع المدني لمشروع المخطط من مرحلة التشخيص لغاية مرحلة توطين المشاريع؛
ثالثا، سياق طبعته أزمة متعددة الأبعاد، طالت الجهة الشرقية، نتيجة إغلاق الحدود مع الجزائر بوجدة، والحدود الوهمية في الناضور.. لذلك بدأ “اقتصاد” تهريب السلع وتهريب البشر في التلاشي.. لكن حلت محله آفاق “مظلمة”.. أزمة انعكست على كل الفئات الاجتماعية.. ووسعت من فئة الفقر والهشاشة؛
رابعا، سياق أوضاع جهة ذات صلة وثيقة بالحدود.. إنها الجهة حافظت على حدود الدولة.. فوصفها الخطاب الملكي بـــ “الذرع الواقي لحوزة الدولة المغربية عبر تاريخها المجيد”.. وإلى جانب ذلك جهة حافظت على حدودها الداخلية.. فقد كانت تحمل اسم الجهة الشرقية عندما كان للمغرب سبع (7) جهات اقتصادية تم إحداثها سنة 1971.. وبقيت تحمل اسم الجهة الشرقية عندما أصبحت هناك 16 جهة وفق التقسيم الجهوي لسنة 1997؛
خامسا، سياق زيارة تميزت بالاستقرار الملكي في الجهة لمدة بلغت 10 أيام.. قام جلالة الملك خلالها بأنشطة متعددة انطلاقا من مدينة وجدة.. استقرار تخلله تكريمين ملكيين، خارج مراسيم الاستقبال، كان ذلك في اليوم الأول لوصول جلالته يوم 10 مارس.. وبتاريخ 18 مارس للاستماع للخطاب الملكي..
المحور الثاني: خصوصية الخطاب شكلا ومضمونا
كان للخطاب الملكي بوجدة خصوصيات مُتعددة.. بعضها يهم الشكل.. والبعض الآخر يهم المضمون.. أشير بينها إلى سبعة (7):
أولا، خطاب من ساحة أول محطة قطار بالمغرب.. نعم.. وكان لذلك دلالاته.. فقد كان للمنطقة مكانة مهمة منذ بداية القرن العشرين.. وكان ذلك بسبب ثرواتها المعدنية.. المانݣنيز في بوعرفة.. والفحم الحجري بجرادة؛
ثانيا، خطاب ملكي مباشر.. وليس عبر الإذاعة والتلفزة.. استمع له نيابة عن الساكنة مجتمع مصغر.. مكون من فعاليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ورياضية وفنية ومهنية وإدارية وحكومية وجامعية وجماعية وجمعوية؛
ثالثا، خطاب ملكي جهوي بكل المقاييس.. خاطب فيه صاحب الجلالة الحاضرون والحاضرات بتعبير “رعايانا الأوفياء سكان المنطقة الشرقية”..
رابعا، خطاب لتقديم مبادرة.. وهي مسألة خص بها الملك الجهة الشرقية.. وعلى العكس من جهات أخرى أشرف فيها صاحب الجلالة على توقيع برامج تنموية بين قطاعات وزارية ومؤسسات عمومية وجماعات ترابية.. فإنه بالجهة الشرقية قدم بنفسه مبادرة ملكية للتنمية؛
خامسا، خطاب “الالتزام المشترك”.. وقد تمت الإشارة بشكل صريح لهذا الالتزام عندما أعلن جلالته أن “… هذه المبادرة بمثابة التزام مُشترك بيننا”.. ويهمني هنا أن أشير إلى أن صاحب الجلالة -كعادته- كان عند وعده لساكنة الجهة، فقد استمرت الزيارات الملكية بشكل دوري ومنتظم لغاية إنجاز كل المشاريع المشار إليها في المبادرة.
وقد أشار صاحب الجلالة إلى “التفعيل الملموس للمبادرة”، وأحدث بهذا الخصوص “آليات للتمويل والمتابعة والتقييم”؛
سادسا، خطاب تكريس مدينة وجدة كعاصمة للجهة.. حيث جاء في الخطاب الملكي “… تكريس الدور الريادي لمدينة وجدة العريقة كعاصمة للجهة الشرقية”؛
سابعا، وبالموازاة مع كل ما سبق.. لم تغب عن الخطاب صفة صاحب الجلالة كأمير للمؤمنين حيث يحث جلالته على “… محاربة… كل نوازع التطرف التي لا مكان لها في مجتمعنا المتميز بأصالته وانفتاحه الحضاري”.
المحور الثالث: خطاب بقاموس شامل
تميز مضمون الخطاب الملكي، من حيث المضمون، باستعمال قاموس موسع في كل المجالات التي عالجها.. ونُشير هنا إلى أن الأبعاد التنموية كانت بارزو من خلال استعمال مفاهيم ومصطلحات تُحيط بكل جوانب التنمية المنشودة. فالقاموس المستعمل كان شاملا على جميع الأصعدة.. وسنأخذ النماذج التالية كدليل على ذلك من خلال جرد كامل للمصطلحات المستعملة مرتبة حسب مجال انتماءها، وعددها ثمانية (8):
أولا، مخاطبة كل المناطق والنواحي بالجهة.. فقد تمت الإشارة أربع مرات لمدينة وجدة، ومرتان لكل من الناضور وفكيك وتاوريرت، ومرة واحدة لكل من السعيدية، جرادة، عين بني مطهر، جرادة.. وحتى لا تبقى الجهة منعزلة تم ربطها بطريق سيار من فاس لوجدة عبر تازة؛
ثانيا، جغرافيا.. تمت الإشارة للحواضر، والبوادي، والنجود، والواحات، والساحل… مع الإشارة لكل من المجال المتوسطي، البوابة المتوسطية، طنجة المتوسط، المناطق الحرة…؛
ثالثا، المفاهيم العامة: التنمية المندمجة، الإمكانات الهامة، المؤهلات البشرية، المشروع الكبير، المشروع الهام، تأهيل الموارد البشرية؛
رابعا، المفاهيم المالية: الاستثمار، تخصيص ثلاثين مليارا من السنتيمات، مساهمات عدة مؤسسات لتمويل مشاريع المقاولات وضمان القروض الممنوحة لها، جلب الاستثمار الوطني والأجنبي؛
خامسا، المفاهيم الاقتصادية: المقاولات الصغرى والمتوسطة للشباب، المشاريع الاقتصادية الهامة، منطقة حرة، مناطق اقتصادية وتجارية وصناعية وسياحية، تحديث وتصنيع المنتوج الفلاحي، جوهرة الساحل المتوسطي، تنمية وحماية النجود والواحات؛
سادسا، البنيات التحتية: التجهيزات الأساسية، إنجاز البنيات الأساسية التحتية الضرورية للجهة.. ويتعلق الأمر أساسا بكل من: الطريق السيار، السكة الحديدية، الطريق الساحلي الشمالي، توسيع وإصلاح الطريق، الماء الشروب، تهيئة المنطقة الساحلية، الميناء؛
سابعا، القطاعات الاجتماعية: التربية، التأهيل، التضامن، العمل والتشغيل الذاتي، دعم للأعمال الخيرية، المجال الاجتماعي، الاهتمام للفئات المعوزة، بطالة فئات من شباب الجهة، إحداث كلية للطب ذات مركز استشفائي جامعي؛
ثامنا، الهيئات المؤسسات: الحكومة، المركز الجهوي للاستثمار، صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكالة تنمية الأقاليم الشمالية، مؤسسة محمد الخامس للتضامن، الشراكة مع النسيج الجمعوي المحلي.
المحور الرابع: الخلاصات والدروس
هي ثلاث خلاصات أعتبر أنه ينبغي استحضارها لفهم أيعاد وخصوصيات الخطاب الملكي بوجدة في 18 مارس 2003:
الخلاصة الأولى، هي أن المشروع التنموي الوطني يتطلب العدالة المجالية، أي القطع نهائيا مع فكرة وجود مغرب “غير نافع”.. لذا.. أدرج جلالة الملك الجهة الشرقية في صلب المشروع التنموي الشامل لبلادنا؛
الخلاصة الثانية، هي أن المشروع التنموي الوطني يفترض الانسجام والتكامل بين مختلف الجهات.. وقد عبر جلالة الملك عن ذلك من خلال ربط المشروع التنموي للشرق بالمشروع التنموي للشمال لخلق مجال متوسطي كرافع للتنمية. وقد أشار صاحب الجلالة لذلك عند الحديث عن “مشروعنا الاستراتيجي الرامي إلى جعل المجال المتوسطي رافعة قوية للإقلاع التنموي الوطني”؛
الخلاصة الثالثة، هي أن للمشروع التنموي أبعاد إقليمية، حيث تحدث صاحب الجللة عن “قطب محوري مغاربي، وجسر متين لحسن الجوار والأخوة الصادقة منع الشعب الجزائري الشقيق”، وعن مشروع استراتيجي يرمي إلى توطيد “الشراكة الاقتصادية والتفاعل الحضاري.”.
خاتمة:
إن المبادرة الملكية لتنمية الجهة الشرقية، جزء من مشروع وطني كبير يريده صاحب الجلالة لبلاده، حيث يقول يهذا الخصوص: “إننا لعازمون من خلال هذه المشاريع الطموحة على أن نوفر لوطننا العزيز المزيد من أسباب القوة والمناعة التي يجب أن تظل شغلنا الشاغل في عالم مشحون بشتى المخاطر والتحولات. وتلكم سبيلنا القويم إلى المضي قدما في البناء الجماعي لمغرب موحد متقدم وديمقراطي ومتضامن وأكثر قدرة على رفع كل التحديات.”.
وكان أول هذه التحديات بالنسبة للجهة الشرقية هو تحرير الأسواق والموائد من السلع المهربة.. فتم بذلك تحرير وجدة من سلع الجزائر.. وتحرير الناضور من سلع مليلية.