أخبار جهويةأخبار محليةأخبار وطنية - دولية

” معرفة النفس بالتكامل بين الحدس العقلي والوجداني”

ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة - MEDIA COM ميديا كوم ... جريدة إلكترونية ... شاملة -  MEDIA COM

أولا : معرفة النفس ومسلك الحدس في مجال العقل

هناك رأي يبدو وكأنه يؤسس لمبدأ التكامل بين الحكم العقلي والحكم الوجداني على الإدراك النفسي والعقدي،والذي سيبقى فيه الجانب الكشفي دائما فوق طور الحكم العقلي. كما أن أهل الأفكار -كما يقول الصوفي “الشيخ محيي الدين بن عربي” في رسالة إلى المتكلم الأشعري “فخر الدين الرازي- “إذا بلغوا فيها الغاية القصوى أداهم فكرهم إلى حال المقلد المصمم،فإن الأمر أعظم من أن يقف فيه الفكر. فمادام الفكر موجودا فمن المحال أن يطمئن ويسكن.فللعقول حد تقف عندها من حيث قوتها في التصرف الفكري ولها صفة القبول لما يهبه الله تعالى”.
هذا التواصل بين ابن عربي والرازي على مستوى التبادل المعرفي يوضح لنا مدى تداخل المفاهيم والمعلومات ،على مستوى الاقتباس الفكري المباشر أو عن طريق التأليف بين المفكرين المسلمين، مما أفرز فكرا متكاملا منهجيا ومعرفيا قد يصعب الفصل الموضوعي بين أصحاب هذا الاتجاه المذهبي أو ذاك.
وهذا ما قد يبدو بوضوح على كتابات الرازي وخاصة عند دراسة النفس وتحديد إمكانها المعرفي، إذ سنرى أنه يوظف الوسائل المستعملة للتحقيق المعرفي في هذا المجال ،من بينها الحضور الوجداني والشعور بالذات ، والذي يقسم بدوره إلى قسمين : القسم المباشر والقسم الاستدلالي غير المباشر. فالأول يدخل في حكم البداهة والآخر ينطبق عليه حكم الاكتساب والمراقبة الدقيقة كما يقول:”فعلى تعين قولكم نفسنا عالمة بماهية نفسنا وجب أن يلزم من علمها بنفسها المخصوصة علمها بجميع آثارها ولوازمها.فكان يجب أن يكون علم النفس بكونها مجردة من الجسمية وبكونها واجبة الحدوث وبكونها واجبة البقاء علما بديهيا. وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه لا يلزم من العلم بالماهية العلم بجميع لوازمها”.
ويقول أيضا -نقلا عن ابن سينا في الموضوع- حول الإمكان المعرفي عن طريق الحدس النفسي:” إنه لاشك في أن الواحد منا يعلم نفسه وقد بينا أن العلم عبارة عن حضور ماهية المعلوم في العالم فإذا علمنا أنفسنا فإما أن يكون ذلك لأجل أن صورة متساوية أنفسنا حضرت عند نفسنا والأول باطل لأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليست إحداهما بالمختلفة والثانية بالحالة الأولى من العكس. ولما بطل هذا القسم ثبت أن علمنا بنفسنا ليس إلا حضور نفسنا عند نفسنا. وإذا كان كذلك وجب في كل شيء حضرت نفسه عند نفسه أن يكون عالما بنفسه ،وواجب الوجود كذلك فيجب أن يكون عالما بنفسه”.
وهنا يطرح موضوع المعرفة عن طريق الحدس والقياس،لأن معرفة النفس حدسية. ومعرفة الله لنفسه يقيسها على حدس الإنسان لنفسه. وهذا قياس الغائب على الشاهد في مجال معرفة النفس والشعور بها،لكن مع ذلك فإن هذا القياس فيه إشكال كبير من حيث تحقيق معرفة نفس الإنسان في حد ذاتها وإمكانها لأن “علم كل أحد بذاته المخصوصة علم في غاية الصعوبة والخفاء… والذي يدل عليه أن المشار إليه لكل أحد بقوله :أنا. إما أن يكون هو هذا الهيكل المشاهد أو يكون جسما من الأجسام الموجودة داخل هذا الهيكل أو يكون صفة من صفات هذا الهيكل،أو يكون جوهرا مجردا عن هذا البدن وعلائقه.
وهذه الأقسام الأربعة قد حارت عقول العقلاء فيها ودارت رؤوسهم في تعيينها،ومن تأمل في مباحث كلام النفس يجد أن هذه المسألة قد بلغت في الصعوبة إلى الغاية القصوى. فثبت أيضا أن هذا العلم صعب غامض”.
ثم يضيف مؤكدا هذه الصعوبة المعترضة للعقل الإنساني في معرفة النفس بأن “أظهر المعلومات هو علم كل أحد بذاته المخصوصة ونفسه المعينة …ومع كونها أظهر المعلومات فقد بلغ العلم بها إلى الغاية القصوى في الصعوبة والخفاء والغموض … وأن الاستقراء يدل على أن أظهر المعلومات عند الخلق أشياء معدودة مثل علم كل أحد بنفسه ومثل علمه بزمانه ومكانه ومثل علمه بجسميته . ثم إن العقل إذا خاض في معرفة النفس والجسم ومعرفة المكان والزمان تحير ولم يقدر على الخلاص. فإذا كان حاله في معرفة أظهر الأشياء كذلك فكيف يكون حاله في معرفة أخفى الأشياء”.
وهذا الموقف من العقل وحدوده في معرفة النفس خاصة بالقياس والاستقراء سنجده كقاعدة عند جل المفكرين المسلمين الذين خاضوا بالبحث في هذا الميدان و أرخوا له ،كابن خلدون مثلا في رده على الفلاسفة عند خوضهم بالقياس العقلي المحض في تحديد ماهية الغيبيات وجواهر الروحانيات بقوله : “وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة أساسا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها، لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيهما وهو مدرك لنا ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها.
فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد. وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه،وقد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية “.
وهذا الاعتراض والموقف من ابن خلدون كان قد سبقه به الغزالي وذلك على سبيل التعجيز العقلي وبيان عدم كفاية العقل وإمكانه في إصدار الحكم القطعي على قضايا النفس وخاصة فيما يتعلق بالجوهر، فقال مناقشا الفلاسفة :”وإنما نعترض الآن على دعواهم معرفة كون النفس جوهرا قائما بنفسه ببراهين العقل ، ولسنا نعترض على دعواهم اعتراض من يبعد ذلك من قدرة الله تعالى أو يرى أن الشرع جاء بنقيضه،بل ربما نبين في تفصيل الحشر والنشر أن الشرع مصدق له.ولكننا ننكر دعواهم دلالة مجرد العقل عليه والاستغناء عن الشرع،فيه فلنطالبهم بالأدلة ولهم فيها براهين كثيرة بزعمهم”.

ثانيا:معرفة النفس وتجاوز العقل المجرد

فالمباحث البرهانية بالعقل المجرد في إثبات حقيقة النفس ودقائقها ليست هي المسلك الوحيد ولا الكافي لتحقيق هذا المبتغى،لأن البرهان العقلي والمنطقي عبارة “عن إثبات الحد الأكبر للحد الأصغر بواسطة الحد الأوسط،ويجب أن يكون ثبوت الحد الأكبر للحد الأوسط وثبوت الحد الأكبر للحد الأصغر، إلا أن هذا المعنى في علم النفس بحقيقة نفسها محال. لأن من المحال أن يحصل بين الشيء وبين حقيقته المخصوصة متوسط يتوسط بينهما أو ثالث يتخللهما.
وإذا كان حصول الحد الأوسط ها هنا ممتنعا، كان طلب هذا البحث ممتنعا،وأيضا فبتقدير أن يحصل بين الشيء وبين ذاته متوسطا إلا أنه من المحال أن يكون ثبوت ذلك المغاير لذلك الشيء أعرف من ثبوت ذاته لذاته”.
فمعرفة النفس لها وجهان من حيث الإمكان سرعة وبط ء: أحدهما يطلب بالبرهان والآخر غير مطلوب بالبرهان،لأن العلم “بوجود النفس من حيث إنها شيء ما غير. والعلم بأنها ما هي على التفصيل والتعيين شيء آخر. والظاهر الجلي هو القسم الأول وهو غير المطلوب بالبرهان ألبتة . وأما القسم الثاني فهو المطلوب بالبرهان ومعرفة سائر الأشياء غير موقوفة على معرفة النفس بحسب هذا الاعتبار”.
وهذا التقسيم يتبين لنا من خلاله مفهوم معرفة النفس وإمكانها.إلا أن القسم الأول قد لا يمثل في الحقيقة مجالا للبحث لأنه مسألة بديهية وشعورية ذاتية عند كل حي . ولهذا فهو لا يمثل مجالا للمعرفة من حيث هي نظر أو تجربة على حد سواء.
أما القسم الثاني فهو دراسة استدلالية تتناول النفس على مستوى عقلي يخضع للأحكام العامة المنطقية من جنس وفصل وموضوع ومحمول، وقضية وحيز وجوهر وعرض . وما إلى ذلك مما له ارتباط بهذه المصطلحات.
وهذا هو أغلب ما استعمله المتكلمون في جل مباحثهم الاستدلالية . لكن الذي يبقى أقرب، بل عين البحث النفسي، هو ملاحظة الأحوال النفسية ومراقبة تدرجاتها وأعراضها وأمراضها … مما سيمثل مسلكا عاما ومشتركا بين الصوفية والمتكلمين والفقهاء والفلاسفة.
ولذا فقد لا نجد تحرجا عند المفكرين المسلمين في موضوع معرفة النفس حينما يستشهد هذا برأي آخر مخالف له مذهبيا أو منهجيا، وخاصة بين المتكلمين والفلاسفة وكذلك الصوفية، نظرا لأوجه التداخل وأسبابها كما سبق وبينا.
وعن هذا المسلك المعرفي نجد الرازي يستشهد مثلا بمحاورات جرت بين أرسطوطاليس وبعض تلامذته عند قرب موته،فقيل له في موضوع معرفة النفس:”كيف يعقل أن يسأل الإنسان غيره عن حال نفسه ؟ فأجاب : بأنه مثل سؤال المريض الطبيب عن دائه وسؤال الأعمى من حوله عن لونه “.
وهذا التعليل غير مقنع،لأنه قياس قد يخرج معرفة النفس عن طورها الخاص والتجريدي إلى تصور مادي لا يليق بالمقام النفسي. بحيث إن سؤال المريض الطبيب عن دائه الجسدي هو سؤال عن عرض جزئي بينما السؤال عن النفسي هو عن الحقيقة والشعور الكلي للنفس ،في حين أن الأنا النفسية غير قابلة للتجزيء وهي مصدر الإدراك في الإنسان بينما الأمراض قد تصيب الأجزاء الجسدية غير الواعية . ولهذا فيكون عدم علم المريض بدائه هو ناتج عن عده علمه بأحوال جسده وأجزائه الظاهرة والباطنة.
وهذا بمثابة حكم خارجي على الجسد لأن الحاكم هو النفس وليس الجسد. ولهذا فالقياس هنا غير موضوعي ولا صحيح وله خلفية مادية تعبر عن التصور اليوناني وتوجهه في التحليل النفسي بطابعه الحيواني الجسدي كما سنرى عند الاستنتاج والمناقشة.
غير أن الرازي لم يورد هذا المبرر إلا استئناسا،وإلا فإنه قد عرض الأدلة العقلية التجريدية بصورة مقنعة ومميزة لمعرفة النفس وإمكانها المباشر وغير المباشر بصورة دقيقة ومفصلة ومؤسسة على نصوص شرعية “.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock