في زمن الوباء: دعوة لمراجعة المفاهيم (1)
كمال الدين رحموني
في زمن الوباء، أمامنا فرصة لمراجعة أشياءَ كنّا نفهمُها، إما فهمًا صحيحا، أو نتظاهرُ بفهمها. ومِنْ هذه المفاهيم: النجاح، المنصب، القدرة، الفرح، السعادة، وغيرها من المفاهيم…. وإذا أخذنا واحدا من هذه المفاهيم، كمفهوم السعادة مثلا، فإن كل الناس يطمح أن يعيش سعيدا، ويجِدّ في حيازة السعادة، فهل السعادةُ في المال، في المنصب، في الشهرة، في القوة، أو في القدرة عل التصرف والنجاة من المواقف الصعبة؟ أسئلة مهمة، حول مفاهيمَ رائجةٍ، تحتاج إجابةً وفهمًا جديديْن، خاصة في زمن هذا الوباء. وإذا كانت السعادة في المال، فهو موجود، وفي المتناوَل اليوم، بل وفي يد الدول الكبرى، التي تسيطر على ثروات العالم، لكنه لم يُحُلَّ مشكلة الوباء، بمعنى أن المال لا يحقق السعادة. فما قيمة المال؟ وإذا كانت السعادة في المنصب، فبعض الناس، يملك المناصب الرفيعة، فهل تجلُب الدرجة الرفيعة سعادةً أمام الوباء للتخلص منه، أو التصرفِ معه ، أم فَرَضَ الوباءُ الحجرَ على هذه الفئة كسائر الناس؟ فما قيمة المنصب؟ وإذا كانت السعادة في الشهرة، فأين المشهورون في زمن الوباء، من كبار اللاعبين، فلم يَعُدْ بمقدورهم مُجرّدُ ممارسة التداريب؟ وأين “المشهورون” من المغنّين والبهلوانيين والمنشّطين البارزين؟ “كورونا” قال لأصحاب الشهرة: شُهْرتُكُم لا تَجْلُب السعادة، شُهرتُكم لا تمنعُكم من الوباء، اُدْخلُوا مَسَاكِنَكُم لا يَفْتِكَنَّ بكم الوباء وأنتم “المشهورون”، “كورونا” لا يعترف بألقاب مُزيَّفَة، ولا بأسماءٍ من وَرق، ما دُمتم لا تستطيعون الخروج أمتارا قليلا، وأنتم الذين كنتم تقطعون الأميال في رحلات الطيران، من بلد إلى بلد. إذن، السعادةُ ليست في شُهرة الإعلام، ولا في قوةِ الجسد، فأين القوة مع الوباء، لا قوةُ جسدٍ تنفع، ولا قوةُ نفوذٍ تَشفَع، أمام وباءٍ أعطاه الله قوةً في التأثير، فمن أصابه الوباء، بَدّد فيه القوة، وأوْهنَ فيه الصّحّة، ومَنْ أصابَه الوباء، وكتَب اللهُ له البقاء، أسْعَفَه الأطباء، فمِنْ أين له القوّة؟ وأين السعادةُ في جسدٍ ينهار أمام وباءِ العصر، وليس وباء عامٍ؟ وليست السعادة في القدرة على التصرف، ليفعلَ الإنسان ما يشاء، في المواقف العادية والصعبة، فهل يقدِرُ الواحدُ منا أن ينجو من الوباء بقدرته؟ أين هي القدرة في زمن الوباء ؟ هل يتصرَّفُ “القادرُ” غيرُ الله، في أن يفعل ما يشاء، أم تصدّى الوباءُ لهذه القدرة الزّائفة الموهومة، إلى أن يأذن الله بالشفاء ؟ ليست السعادة لا في المال، ولا في المنصب، ولا في الشهرة، ولا في القوة، ولا في القدرة على التصرف والنجاة. السعادة الحقيقية، في أمور ثلاثة :طاعة الله تعالى، وراحة البال، والقناعة.
1. طاعةُ الله: حين يستشعر الإنسان رقابة الله في لحظة، ويُطيعُه عن طيب خاطر دون إكراه، يشعر بالسكينة في القلب، لماذا ؟ لأن الله يكون معه في كل لحظة، ومَن كان الله معه، أيَحْزَن، أيَقْلَق، أيخاف؟ أبدا. وهاكَ مثالٌ يعرفه عامة الناس. في طريق هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم- رفقة الصحابي الجليل أبي بكر -رضي الله عنه-، وهما في الغار وقريش تطاردهما، يقول أبوبكر، وهو الحريص على النبي الكريم: ” لو أنَّ أحدَهم نَظَر إلى قَدَميْه أبْصَرَنا تحت قدميه. فقال:” يا أبا بكر، ما ظنُّكَ باثنين اللهُ ثالثُهما” مسلم. هذه المعية، نزل بها قرآن يُتلى، حين قال تعالى:” إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”التوبة40، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى:” أنا عندَ ظنِّ عبدي بي إنْ ظنَّ خيرًا وإنْ ظنَّ شرًّا” صحيح بن حبان.”. ومحنة الغار كانت لحظة شديدة، ونحن في شدة الوباء، والسعادةُ الحقيقية، هي أن نستحضرَ معيّة الله، فنُطيعَه لأنه يراقب عباده، في زمن الرخاء والوباء، وما بعدهما، فَلْنحرصْ أن يكون الله معنا، وهذا الوباء يُحيي فينا الشعورَ بِقُربِ الله منّا، وهو سبحانه القائل:” ” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ “البقرة186. سعادةُ الدنيا، -كما يقول ابن القيم-رحمه الله-فاقةٌ (فقر) :” لا يسُدُّها إلا محبّةُ الله، والإقبالُ عليه، والإنابةُ إليه، وفي القلب َشعَثٌ(تشتّت وتفَرُّق) لا يلُمُّ شَعَثَه إلاّ القربُ من الله”. السعادة حقيقة، حين نحسُّ بالقرب من الله، وحين نشعر بالطمأنينة، وحين تكون محبوباً عند الناس.
2. راحةُ البال: تجعل الإنسان يشعر بهدوء النفس، والبِعدِ عن القلق والتوتّر، فينام هنيئا، ويستيقظ نشيطا، لأنه سليمُ القلب، مُطمئنُّ البال، لا يحمل حسدا لأحد، ولا بُغضَ لأحد، ولا كيدَ لأحد. وهذا رجل من بسطاء الصحابة، يشهد له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالجنة ، قائلا: ” يطلُع عليكم الآنَ رجلٌ من أهل الجنة”، قالها ثلاثة أيام، فيدخل في كل يوم صحابيٌّ غيرُ مشهور ولا معروف، ولا يعرف الناس عنه شيئاً، فأراد عبد الله بن عمرو أن يعرف، ما ذا يعمل الرجل. فذهب إلى هذا الرجل وادّعى خلافا بينه وبين أبيه، رغبة في أن يستضيفه الرجل، فاستضافه ثلاثة أيام، فوجد صلاةَ الرجل وعبادته عادية، وليس عنده جهد كبير مثل كبار الصحابة، فلما انتهت الثلاثة أيام قال: يا عمُّ! أريد أن أخبرك الحقيقة، أنا لم يكن بيني وبين أبي خلافٌ، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كذا وكذا فأردت أن أتأكّد منه، قال: هو ما رأيت، فرجع عبد الله بن عمرو متعجّبا، لماذا بشرّه النبي بهذه البشرى؟ فلما انصرف ناداه هذا الصحابي وقال: يا ابن أخِي! غير أني أبيتُ ولا أحمل في صدري حقداً ولا حسداً لأحد، فقال ابن عمرو: بها أوتيت” مسلم. منِ الذي يصيبه القلق والخوف في زمن الوباء؟ الذي يشعر أنه ظلَّ أو لازال بعيدا عن ربه، هائما في هواه، غارقا في شهواته، هذا هو القَلِق الخائف، القَلِق الخائف، هو الذي يشتعل قلبه غيضا وحسدا على الناس: لما ذا أعطاهم وحَرَمَني؟ لماذا أغناهم وأفْقَرَني؟ لماذا، لماذا…….. هذا الذي ظل يحتجّ على ربه، ويظن أنه “يمارس” حقّا من حقوق الإنسان، هذا هو الذي يَقْلَق في زمن الوباء، ويُفزعه الوباء، ويتحسَّس جسدَه خوفا من “الفيروس”، لأنه ليس مرتاحَ البال.
3. القناعةُ: هي أن يُؤمن الإنسانُ بما قسَم الله له من الرزق، فلن يموتَ عبدٌ حتى يَسْتكملَ رِزْقَه، ويَستوفيَ أجلَه، ” فالحَذرَ، الحَذَرَ، أن يبحث عن الرزق بطرق الحرام. القناعةُ معناها أن يهتمَّ الإنسان بيومه، بالحاضر، ولا يحزنَ عمّا فاته من الماضي، ولا يتحسّرَ على ما فاته من النِّعم، ولذلك
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” اِحْرِصْ على ما ينفعُك واستَعِنْ بالله ولا تَعجِزْ وإنْ أصابك شيٌء فلا تقُلْ: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قُلْ: قَدَّر اللهُ وما شاء فَعَل، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عمَلَ الشَّيْطان ” مسلم. هذه أركان السعادة الحقيقية: مَعِيَّة الله، وراحةُ البال، والقناعةُ. وهكذا نصحّح مفاهيمنا، في زمن الوباء، وهكذا ينبغي أن نقابل الوباء بمراجعة المفاهيم، وهكذا نعيد النَّظر فيما كنّا فيه قبل الوباء، حتى إذا طال زمنُه، -ونتمنى أن يزول قريبا-، أيْقنَّا أنه لن يُصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، دون أ، ننسى دائما اتخاذَ الأسباب، وأهمُّها، التَّوجُّه بالدعاء إلى ربّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب، وخالقِ البشر من تراب، أن يرفعً البلاء، ويحفظَ البلد من الوباء، ويعُمّ البشرية من الأبرياء بالشفاء، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.