قراءة في حديث السفينة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين
قراءة في حديث السفينة
بقلم: عبد المجيد بنمسعود
تمهيد: تتميز الأمة المسلمة بأنها ذات مرجعية ربانية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها،وهي مرجعية تقوم على كتاب الله العزيز، وسنة نبيه الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. وإذا كان الكتاب يضع الضوابط الشرعية والنظم والأحكام التي تؤطر حركة الإنسان على هذه الأرض، فإن السنة المشرفة تتولى البيان لكل ذلك، فضلا عن بعض المهام الأخرى التي تتضمن بعض معالم التأسيس فيما يسمى السنة المؤسسة. أما السيرة العطرة فهي تمثل النموذج العملي التطبيقي للخطاب الشرعي، والذي يمثل بدوره أساس
البناء الحضاري الذي بقدر ما تستلهم روحه ومفرداته على مر العصور،فإن ذلك يشكل ضمانا لمزيد من التألق والعطاء، على مستوى ارتقاء السلوك البشري، وتحقيق مراد الله في صنع الإنسان الرسالي الذي يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وبناء الأمة الشاهدة التي تحمي هذا الكون من التيه والانحراف والهلاك، وتملك القدرة والإمكان لانتشاله وتسديد مساره، كلما أحاطت به الشياطين،وغمسته في لجج الفساد والفجور.
بتعبير آخر،إن النموذج التطبيقي الذي تجسده السيرة،يمثل تنزيلا حيا ونابضا لمجمل القيم التي بثها الخطاب القرآني إلى نفوس المكلفين،وتكفل البيان النبوي برسم معالم ذلكم التنزيل،بالأقوال والأفعال والتقريرات،وبما يستبطنه كل ذلك من تمثيلات وإيحاءات تحرك مكامن الفكر والوجدان،وتمكنهما من امتلاك الحس الحضاري المرهف والدقيق،الذي يعين على اتخاذ القرار الناضج، وتبني الفعل الرشيد، الذي يورث حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
سأحاول في هذه المقالة- بإذن الله- أن أقف وقفة تأملية عند حديث السفينة،مستخلصا بعض ما يوحي به من بصائر وتوجيهات،وقبل ذلك ما يكتنزه من حقائق، ومن إشارات وتنبيهات، على مستوى طبيعة المجتمع الإنساني في بعده العام،وطبيعة المجتمع المسلم المخول بحمل رسالة الشهود على الناس.
أولا: نص الحديث: روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب الشركة من صحيحه:” باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه” من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”
ثانيا : تخريج الحديث: الحديث أخرجه البخاري في كتاب الشركة، ” 2493″ وأخرجه أيضا في كتاب الشهادات،باب القرعة في المشكلات،: 2686″ بلفظ: ” مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها…” وأخرجه الترمذي في الفتن” 2173″وأحمد:4/ 268″، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى “10/91″، “10/288″ وفي شعب الإيمان” 7576″ 6/91 – 92″ وأخرجه بن حبان:” 297″1/532″- إحسان، وفي:” 298″ 1/533- 534″ بلفظ:” المداهن في حدود الله والآمر بها والناهي عنها كمثل قوم استهموا …” وفي 301″ 1/537″، بلفظ: ” مثل المداهن في حدود الله والآمر بها والناهي عنها كمثل قوم استهموا سفينة…”
ثالثا: قراءة تحليلية في مضمون الحديث:
إن المتدبر لهذا الحديث النبوي الشريف، يستطيع أن ينظر إليه من زوايا عدة، ومستويات متكاملة تتصل كلها اتصالا وثيقا بطبيعة المجتمع، وبما يحكمه من سنن وقوانين،تحدد نوعية التعامل معها سير ذلك المجتمع وطبيعة مآلاته وعواقبه،وإن من يقوم بذلك التدبر بذهن صاف وتجرد علمي كامل،لا يسعه إلا أن يعبر عن إعجاب واندهاش إزاء ما يزخر به هذا الحديث من حقائق،وما يحفل به من زخم نظري بالغ العمق والثراء، بحيث يستدعي ولوج مجاله واستكشاف رحابه وطبقاته، توظيف علوم وتخصصات،والتسلح بمداخل منهجية معتبرة، كفيلة باستخراج كنوزه وذخائره. ومن الأكيد أن يتحول الاندهاش المتولد عن دراسة هذا الحديث، إلى خشوع وإجلال،وإيمان وإذعان، عندما يعلم أن الذي صدر عنه،هو النبي الأمي الذي ختم به الله عز وجل الرسالات،فأرسله رحمة للعالمين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
مستويات القراءة والتحليل:
دلالة تشبيه المجتمع الإنساني بالسفينة: إن أول ما يسترعي نظر الدارس لهذا الحديث النبوي الشريف،تشبيهه للمجتمع الإنساني فيما يكتنفه من أوضاع، وما يجري فيه من علاقات وتفاعلات، بسفينة تمخر عباب البحر، في اتجاهها إلى وجهة معلومة، أو بالأحرى محددة سلفا من القوى الفاعلة والمؤثرة في صنع القرار، وتحديد المسار، على اختلاف مواقعها ومستويات فعلها ونشاطها.
إن هذا التشبيه النبوي ذو دلالة عميقة الغور بعيدة المدى، كيف لا وهو يصدر عمن لا ينطق عن الهوى؟، إنها دلالة بعيدة المدى من حيث ما تولده فيمن يتعامل مع الحديث بحس مرهف وفقه صحيح، من وعي حاد، بارتهان مصير سفينة المجتمع، بنوعية ما يجري فيها من أفعال وتصرفات،بل وقبل ذلك، بما يعتلج في أعماق نفوس أفرادها أو أعضائها من أحاسيس وأفكار، وطموحات وآمال. فبقدر ما تتسم به هذه من ارتباط بجوهر الفطرة واستقاء من معينها الصافي،وتتصف تلك، أي الأفعال والتصرفات، من استقامة واستواء، يكون نصيبها من السلامة والصلاح، واقترابها من شاطئ الأمان.
والعكس صحيح تماما، أي بقدر ما تتلون أحاسيس ركاب سفينة المجتمع وأفكارهم وطموحاتهم وآمالهم بالقتامة والضياع والانشطار،وتوسم أعمالهم وتصرفاتهم بالفساد والانحراف عن جادة الصواب،يكون نصيب السفينة وحظها من الأهوال والأخطار التي تهدد سلامتها في الصميم، فتودي بها ولو بعد حين. وإن من شأن ذلك الوعي الحاد الذي يولده التشبيه النبوي الكريم- ضمن الوضع المتكامل للشخصية المسلمة- أن يثمر يقظة لا تفتر، وانتباها لا يخبو، ومن ثم اندفاعا صادقا وهمة عالية لحراسة سفينة المجتمع، والذود عنها ضد كل ما من شأنه أن يتهددها من أعاصير وأنواء،بدافع قوي من استشعار المسؤولية عن مصير السفينة ومآلها.
إن من شأن تشبيه المجتمع بالسفينة أن يحول دون احتجاب حقيقة الوضع البالغ الخطورة والحساسية الذي يكتنف المجتمع، وراء كثافة من الغفلة، لأن الذي يترسخ في وعيه ووجدانه أن سفينة المجتمع وسفينة البحر سيان، لا يليق به أن يتطرق إليه وارد من غفلة عما هي مقبلة عليه من تحديات وصعاب، إلا أن يكون ذلك الوارد وليد غفلة عن الحقيقة لسبب من الأسباب، يمس صميم الوعي نفسه، من حيث هو ، أو من حيث ما ينبغي أن يولده من قوة الإرادة التي تقف وراء الممارسة والفعل.وإنه من الأكيد أن ما يقع للسفينة من مخاطر وأهوال، ليس ناتجا فقط وبشكل مباشر، عن سلوك واحد أو أكثر ممن يوجد على ظهرها من الأفراد، بل هو ناتج في محصلة الأمر عن نكوص المجموع عن الحيلولة دون هؤلاء،والمساس بأمن سفينة المجتمع، وهذا ما عبر عنه الحديث الشريف في قوله عليه الصلاة والسلام: ” فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا” .
إن المفروض أن يؤدي تشبيه المجتمع بالسفينة بمن يتلقون الخطاب النبوي تلقي قبول وإذعان، وتمثل و تطبيق، إلى اليقظة الدائمة، لكل ما يتهدد تلك السفينة من أخطار محدقة.
يقول الدكتور محمود توفيق محمد سعد: ” الصورة التي يقدمها النبي صلى الله عليه وسلم لواقع الحياة على هذه الأرض، وعلائق الناس فيها ببعضهم ومسؤوليتهم في الحفاظ على بقائها وصلاحها، صورة منتزعة من واقع مشاهد، لا يتأتى لأحد أن يجادل، أو يتوقف فيه البتة، فلن يكون منه إلا التسليم بما ينتهي إليه التصوير والمقارنة والموازنة، من هدي يأخذ بأيدي الناس إلى التي هي أهدى وأقوم، اقتناعا واطمئنانا، فينقادون إليه انقياد ذي الأغلال، إلى خير يرمى به إليه.”) كتاب الأمة رقم:41، إصدار” 1994 ص: 38(
المستوى العلائقي: تكشف قراءة الحديث النبوي الشريف فيما تكشف عنه من أبعاد، عن البعد العلائقي الذي يؤطر سفينة المجتمع، ويحكم طبيعة جريانها، ذلك البعد الذي ينبني على نوعية المواقع التي يشغلها أفراد السفينة-المجتمع، أو المجتمع-السفينة، من حيث هي مواقع يترجم تنوعها وتباينها، عن تكامل في الوظائف والأدوار، التي تحمل في نشأتها وتجليها، شبها باستهام ركاب سفينة البحر على مواقع السفينة، وما تتألف منه من طوابق ومستويات.ومقابل الاستهام بين أفراد سفينة البحر على مستوى سفينة المجتمع، هوما يجد كل واحد من الأفراد أو الجماعات نفسه مؤهلا له أو منتدبا إليه من مهام وأدوار، بمقتضى أقدارهم، دون أن ندخل في الحديث عن الملابسات التي اكتنفت وجود هؤلاء في مواقعهم تلك لا في غيرها،وعما إذا كانوا أهلا لأفضل منها، في حالة ما إذا لابستهم ظروف مغايرة للعيش، وواتتهم فرص أوفر لإبراز طاقات مذخورة لم تبرز، واستخراج مواهب مكنونة بقيت محبوسة قيد الإمكان، فتلك مسألة أخرى لسنا بصدد بسط الكلام فيها،لأن عدم القيام بذلك لا يؤثر في نتائج تحليل الموضوع المستهدف بذلك.
إن طبيعة هذا المستوى العلائقي تفرض التعامل الواعي والبناء بين أفراد سفينة المجتمع، بحيث يكون كل واحد في مستوى الإدراك العميق لما يمكن أن ينجم عن أي تصرف ناشز من مضاعفات،ومن اختلال للوضع العام لجريان سفينة المجتمع، لأن ذلك التمثل يعتبر وجها من وجوه الخرق لتلك السفينة، وبقدر ما تتعدد الخروق وتتكاثر وتتنوع ، يمثل ذلك صنعا لعوامل الغرق ومقدمات لواقعة الهلاك المحقق.
إن حديث السفينة يكشف عن مدخلين أساسيين لما يمكن أن ينفذ منه الشر المستطير لركاب السفينة، يتعلق أحدهما بالذين في أعلاها ويتعلق الثاني بمن هم في أسفلها.
أما الذين في أعلاها فيكونون سببا لما يمكن أن يحدث للسفينة من خروق أو نقوب، ليس فقط في الحالة التي يغضون فيها الطرف عن التصرفات الهوجاء التي يمكن أن يقدم عليها من هم في أسفل السفينة، أو يبدر منهم ما يشي بنزوعهم إلى الإقدام عليها،بل وحتى في حالة صدور موقف منهم يتخذه الأسفلون ذريعة لارتكاب أي حماقة تعرض السفينة للخطر. ولفظة:” يتركوهم” في الحديث، تؤدي كلا المعنيين بلا ريب،و يؤكد المعنى الثاني ما ورد من زيادة في رواية الترمذي وأحمد:” فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا” ، ويزيده تأكيدا ما ورد في رواية للإمام أحمد: ” فثقل ذلك على الأسفلين” .ويعزز دلالة هذه العبارة الأخيرة ما ورد في رواية أخرى للإمام البخاري:” فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا: مالك؟ فقال تأذيتم بي ولا بد لي من ماء”
وأما الذين في أسفلها،فخرقهم المحتمل للسفينة، يتمثل كما سبقت الإشارة في نزوعهم القوي نحو إحداث ذلك الخرق، الذي لا يشفع لهم فيه البتة ما يمكن أن يبرروا به فعلهم من ذرائع أو حجج داحضة،لأنها ظاهرة الفساد والبطلان، ولا يمكن لصلاحها الظاهري السطحي، أن يخفي ما تحمله من أوخم العواقب للسفينة وركابها، ولا أن تنال قبولا أو تحظى بقيمة في ميزان العقل.فضرورة الحصول على الماء،التي تحجج بها الذين في أسفل السفينة لا بد أن تتحقق وتلبى بالطرق المأمونة والسليمة، والتي تقتضي في بعض الملابسات والظروف، أن تستصحب معها هامشا من الأذى الذي يعتبر من لوازم اطراد السير،في سبيل تحقيق النفع العام، والمصلحة العليا لركاب السفينة أجمعين.ينطبق هذا على سفينة البحر وسفينة المجتمع، سواء بسواء،من حيث المبدأ، وإلا فإن سفينة المجتمع على قدر كبير من التعقيد، يترتب عنه صعوبة الرصد والمراقبة، وصعوبة متابعة الأفراد الذين يتقاسمون مواقعها ومصالحها. وهذا لا يمنع من القول: إن التشابه بين السفينتين قائم على وجه التمام، من حيث ما يترتب على ما يحدث في كل منهما من خروق، مع فارق في المدى الذي تستغرقه عملية الغرق والرسوب إلى قاع اليم.
وهناك مدخل ثالث للشر والأخطار التي تحدق بالسفينة، سواء في بعدها الحسي، أو في بعدها المعنوي،ينضاف إلى المدخلين السابقين: إنه مدخل المداهنة الذي يتسلل من خلاله المداهنون إلى حمى السفينة، متلفعين برداء المكر السيء، الذي يتجلى إما عبر الدفاع عن حق وهمي، يزعمونه للذين كان أسفل السفينة من نصيبهم،حقهم في أن يفعلوا في ذلك النصيب ما يحلو لهم ويطيب،ولا شأن لهم بالآخرين، أو للآخرين بهم، وإما أن يدعموا مقولتهم الزائفة التي مفادها أن اتجاههم إلى خرق “نصيبهم” إنما كان بسبب ما نالهم من أذى. و قد يتجلى ذلك المكر في الإنحاء باللائمة فيما يمكن أن يحصل من خرق، على من كان أعلى السفينة نصيبهم، بسبب تبرمهم من بعض الحرج الذي يحصل لهم نتيجة مرور المقيمين أسفل السفينة عليهم، عند استقائهم من الماء.
ب1-سفينة المجتمع وإشكالية الحرية:
خلاصة الأمر في هذا المستوى العلائقي، أن جوهر المشكلة إنما يتجلى في النظر المغلوط إلى حدود تصرف الإنسان، باعتبارها حدودا مترامية الأطراف، وأنها قابلة للتمدد إلى ما لانهاية،وهو تصور في غاية القصور والخبال،لأنه يناقض سنن الوجود التي تقضي بأن ما هو مخلوق من قوة متعالية تتصف بإطلاق المشيئة والإرادة، لايمكن إلا أن يتحرك في مجال محدود تضبط حدوده تلك القوة القاهرة بموجب كونها خالقة، مصداقا لقوله تعالى: “ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين”)الأعراف:54 (، إنها بعبارة موجزة مشكلة الحرية الإنسانية التي سال حولها مداد كثير،وتراكم بسبب الخوض فيها أكوام من الكتب والمجلدات. ولن تحل أبدا بإطلاق الحبل على الغارب بهرطقات ممجوجة من قبيل ما عبر عنه الأسفلون أو المداهنون، فضلا عما يمكن أن يقع من انسياق مع هؤلاء العابثين،بدافع اللامبالاة، تحت تبريرات مرفوضة عقلا وشرعا. وإنما الذي يحل تلك المشكلة الكبرى، ويخلص الحضارة الإنسانية من عواقب التعامل الفج معها،هو التصور الحق للحرية الذي يقوم على أساس الربانية والشمول والتوازن، إذ أن الربانية ضمان لعدم التسيب والشرود،والبعد عن الصواب،والشمول ضامن لأخذ مجموع العناصر والمكونات بعين الاعتبار،فلا يمكن لبعضها بالجور والطغيان على البعض الآخر،والتوازن كفيل بتجنب الإفراط والتفريط. إن الأخذ على الأيدي ، وفقا لما ورد في نص الحديث لفظا ومعنى، هو الحل الأمثل لإنقاذ سفينة المجتمع، وتجنيبها غوائل التسيب والفوضى التي تؤدي بأهلها حتما إلى الغرق، أو إلى التشرد والبوار. والأخذ على الأيدي هو في محصلة الأمر أخذ بالأيدي، إلى بر النجاة والأمان، بدليل قول الحديث: ” وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”، وهذا وجه عظيم من وجوه الرحمة التي جاء الإسلام بمنهجه القويم ليغمر بها الإنسانية على وجه العموم،والمسلمة منها على وجه الخصوص والاصطفاء، بفضل احترامهم لأحكام السفينة، والتزامهم بقوانين السلامة المفروضة فيها.
ب-2 سفينة المجتمع وإشكالية الملكية :
يطرح حديث السفينة أيضا إشكالية من أشد الإشكاليات خطورة وحساسية في الحياة الإنسانية،وكمونها وراء قدر هائل مما عرفته من زلازل وهزات، على مستوى العلاقات بين شرائح المجتمع ومكوناته. ولاتزال هذه المشكلة تلقي بظلالها على أمم الأرض قاطبة، بسبب عدم الانطلاق في التعامل معها من موقف رشيد يستمد قوامه من التصور الحق للمسالة، إنها مسالة الملكية، ملكية الأشياء، من حيث تحرير القول قي أصلها وطبيعتها،لمن تعود هذه الملكية في نهاية المطاف؟،لشريحة ما أو لبعض الشرائح داخل المجتمع، أو هي تعود للمجموع، أم هي على الحقيقة لا لهؤلاء ولا لهؤلاء؟
إن حديث السفينة يوحي بشكل عميق، ومن خلال سياق حواري بديع،وبكلمات قليلة، بالتصور الحق، وبشتى أبعاده البعيدة التأثير، على مستوى الوجود الإنساني عبر عصوره ومراحله. جاء على لسان من كان أسفل السفينة من نصيبهم: ” لوأنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا” فإذا كان جواب الشرط في هذه الجملة يتعلق بتبرير الفعل الذي تعلقت به النية والنزوع، فإن جملة الشرط تتضمن زعما بملكية نصيب من السفينة، هو أسفلها،وهو زعم لا يسلم لهم، خاصة في هذا المقام الحساس، وفي سياق الظرف النفسي والعلائقي الذي تمر به السفينة،الموسوم بالاختلال،بسبب ضبابية الرؤية ومحدودية الأفق الفكري لدى ركاب السفينة بكلتا موقعيهم: الأعلى والأسفل، على تفاوت في جسامة الخطر الناجم عن موقف كل منهما في حق السفينة التي تحمل الجميع.
إن الظرف الحرج الذي وجدت فيه السفينة عندما هم الذين هم في أسفلها بجعل خرق في ما سموه نصيبهم، يكشف لأولي الألباب حقيقة الأمر في الملكية المزعومة من هؤلاء، وهي أنها ملكية على سبيل المجاز لا الحقيقة، لأن الملكية على الحقيقة لمجموع السفينة إنما هي لمجموع الركاب،ما دامت الملكية العرضية تظل محكومة في امتدادها الزمني والشعوري النسبيين، بمدى استمرار وضعها في حالة السلامة والتوازن، التي لن تتم بدورها إلا بصحة التصور والسلوك تجاه مصلحة السفينة التي تتمثل في نجاتها من كل سوء.إن القيام على حدود الله على صعيد الجماعة البشرية لن يتم على الوجه الأمثل إلا إذا تضافرت جهود أعضائها من أجل حماية كيانهم من أن تخترقه السهام، أو تقتحمه قوى الشر، لتحويله من حالة النظام إلى حالة الفوضى،ومن حالة الهدوء واستتباب الأمن والاطمئنان، إلى حالة الاضطراب وفقدان الأمان. وصمام الأمان الذي يجسد هذا المطلب العزيز، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن تتم رعاية هذا الركن الأصيل، من أبسط تجلياته إلى أعقدها وأعلاها، انطلاقا من الاقتناع الراسخ بأن معظم النار من مستصغر الشرر، وهو ما يوحي به على سبيل المثال قول الرسول عليه الصلاة والسلام في قضية تحريم القليل من الخمر:” ما أسكر كثيره فقليله حرام” ) رواه أبو داود (.
وإن الذي يتيح سريان روح هذا المبدأ في نفوس الناس،هو اقتناعهم الراسخ بأن المجتمع الذي يكتنفهم ويتحركون في فضاءاته،ويقضون حوائجهم في كنفه، تعود ملكيته للجميع، على اختلاف أقدارهم ومواقعهم، وأن كل واحد منهم له قسطه من المسؤولية في حمايته والذود عن حياضه. أما الاستقالة واللامبالاة وغض الطرف عما يجري، فذلك مما يتنافى مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو واضح لأولي الأبصار.
وخلاصة الأمر في مسألة الملكية في مفهوم الإسلام، والتي يختزل حديث السفينة معالمها التصورية والتطبيقية في نموذج بديع،أن هذه الملكية تعود للناس مجازا، لأنهم هم الفقراء والله هو الغني،مصداقا لقوله تعالى:” يا أيها الناس أنتـم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد” ) فاطر (15وقوله سبحانه:” والله الغني وأنتم الفقراء”) محمد:38 (. فالذي يملك هذا الكون ومافيه، هو الله جل جلاله،وإذا كانت الأموال أبرز شيء يزعم الإنسان ملكيته، فإن الله سبحانه وتعالى يحسم الأمر فيه بقوله عز وجل:” وآتوهم من مال الله الذي آتاكم” )النور:33) وقوله جلت قدرته”:” آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” (الحديد:7(، فالوضع الأسلم مآلا في معاش الناس وفي أخراهم، عند التعامل مع كل متاع، هو النظر إلى الملكية المجازية العرضية في ضوء الملكية الحقيقية التي تعود إلى خالق الكون والإنسان ومدبر أمرهما،الله العزيز الحكيم، لأن موقع الإنسان في هذه الحياة، هو موقع استخلاف يتصرف فيه بمقتضى ما يرضي الله عز وجل، من إذعان وتسليم ومسارعة إلى الخيرات، بما فيها التحلي بأعلى الفضائل الخلقية، من تضحية وإيثار ونكران للذات،فضلا عن بذل العفو للناس.
يقول الدكتور محمود توفيق محمد سعد فيما يزيد هذه الفكرة جلاء: ” إن اقتسام الأشياء عدالة وارتضاء، لا ينفي أن يكون للآخرين بها بعض الحق ولو من وجه خفي، فليس الذي يملكه هذا بخال من حق الآخرين فيه، فكل أمر الإنسان وشأنه وماله من الموجودات، حسا ومعنى، لغيره فيه بعض الحق: جسده وعقله وقلبه، ماله وولده وعلمه، تقواه وقدره وجاهه…الخ. وما يكون لأحد، ولا ينبغي له أن يتبرم من أن يستعمل الآخرون ما لهم من حق فيما ملكت يده بفضل الله تعالى. وغير قليل من الناس تضيق نفوسهم حين يطلب الآخرون حقوقهم عندهم، فترتسم آيات الضجر على الوجوه، وقد تلفظ الأفواه كلمات طاعنات، وقد تمتد الأيدي بما يؤذي الطالبين حقا لهم،وما ذلك بالمنهج الأمثل في الإسلام “) المرجع السابق: ص:41-42(
ويقول في موضع آخر من كتابه القيم: ” إن الحكمة لتقتضي بأنه ليس الصلاح أن لا تفعل الشر، بل وأن لا تحمل الآخرين عليه،بل وأن تعينهم على الاعتصام من التردي في خباله” ) ص:43 (
ج- السفينة كنموذج للتحليل) سفينة أم سفن؟( :
يمثل حديث السفينة نموذجا نظريا ذا قدرة عالية على التحليل بالغ العمق والدقة،ويشكل، بلا ريب، وجها من وجوه الإعجاز النبوي، على مستوى التحليل النفسي والاجتماعي لشبكة العلاقات الاجتماعية، وما يعتريها من عوارض، وما يتحكم في حركتها وتطورها من آليات نفسية واجتماعية، في ارتباط بالرؤى العقدية والفكرية التي تؤطر كل ذلك،وتدفعه في هذا الاتجاه أو ذاك.
إنه بإمكاننا أن نستخدم هذا النموذج التصوري أو التمثيلي،ونسقطه على كل ما هو علاقات إنسانية من أصغر دائرة) الأسرة( إلى أعلى دائرة) العالم(، مرورا بالدوائر الوسطى على اختلاف أحجامها: الزقاق أو الدرب، القرية أو الحي، المدينة،و ما إلى ذلك.
فالأسرة باعتبارها مؤسسة اجتماعية ذات أهداف ووظائف وأدوار سامية، وذات تركيبة قوامها مجموعة أعضاء تتباين مواقعهم ودرجات خطورتهم في رسم معالم السير، والإسهام في تحقيق الآمال والأهداف المنشودة، في إطار من العدل والتوازن،يمكن أن ننظر إليها بحسبانها سفينة مصغرة من حيث حجمها، ولكنها خطيرة في شأنها، باعتبارها وحدة حيوية تتألف من أشخاص، لكل منهم اعتباره الإنساني،وطموحه الدفين لأن يعيش وضعا سعيدا جديرا بآدميته. إن هذه الأسرة تتأثر بما يجري على صعيدها من علاقات، وما يكتنفها من أجواء وتفاعلات،بدءا من أبسط تصرف، حركة كان أو كلمة، أو أي شكل من أشكال التعبير والمعاملة.
وقد لا يؤبه بأمور تجري داخل حماها لاستصغارها واعتبارها تافهة،ولكنها تظل تحفر في صمت، وتفعل فعلها غير المحمود في كيان السفينة، ولو بعد حين.أما إذا كان التصرف صاخبا عنيفا، على مستوى أعضاء سفينة الأسرة،كأن يكون شقاقا، أو انحرافا عن جادة الصواب،يتخذ شكله الأخطر في حالة تعلقه بالأبوين، فإن خرقا خطيرا يحدق بجدار السفينة، يكون له نتاجه الوخيم، إلا أن يتم التدارك ورأب الصدع قبل استفحال الأمر. وفي حالة التسامح مع وقوع الأخطاء، حتى تتراكم، فإن ذلك يكون مؤذنا بأسوأ العواقب بلا ريب.
ومما لا شك فيه،أن المسؤولية الكبرى عن مصير سفينة الأسرة،ملقاة على عاتق الأبوين اللذين يحتلان أعلاها، كيف لا والخرق الذي ينتج عن تقصيرهما أو انحرافهما يمكن أن يصل إلى حد التهويد أو التمجيس أو التنصير، كما يفيد ذلك حديث الفطرة المشهور.ولن أغادر الحديث عن مثال الأسرة حتى أورد نموذجا للخرق الذي يعمل بدأب في جدرانها، ويتسع بلا رحمة ولا هوادة،إنه التلفزيون الذي أصبح بابا مشرعا على كل شر وسوء، وما أظنني مبالغا إذا قسته على الخمر في رجحان ضرره على نفعه،إلا أن يكون أمر تدبيره بأيدي غاية في الحكمة والصرامة،والقدرة على نزع الشر من بين ثنايا الخير وفصله منه كما تفصل الخمرة من الماء.
وليقس على مثال الأسرة، مع تكبير الصورة،كل وحدة من الوحدات الاجتماعية المذكورة، فكل ما يجري فيها يؤول في نهاية المطاف، إلى ما تؤول إليه سفينة البحر،سلبا أو إيجابا،تبعا لما يقترف فيها من صلاح أو فساد.
ول يغرن الناظر إلى مجرى الأحداث والتفاعلات على مسرح تلك الوحدات،ما قد يظهر على سطحها من مظاهر الاستقرار، فهي أشبه في حالة الفساد وتعدد الخروق، بسفينة يتسرب إليها الماء بكميات دقيقة على أمد قد يطول نسبيا،ولكن غرقها محقق على كل حال ، ولن تجدي معه المياحات ولو كثرت، بعد أن تكون ساعة الحسم بالعقوبة قد حانت،ولات حين مناص.
إن القيام على حدود الله يقتضي تضافرا من قوى المجتمع على حفظ حرماته، بتطبيق أحكام شرعه،وتمثل قيمه وأخلاقه،والأخذ على أيدي العابثين المتجرئين على تلك الحرمات، تحت أي لافتة من اللافتات، أو شعار من الشعارات.وفي الحالة التي تحدث فيها الغفلة وترتخي قبضة الحراس عن سلاح اليقظة،تنهال فؤوس المستهترين على جدار سفينة المجتمع يمينا وشمالا، وتثخنها بالخروق والثقوب.
إن الخروق التي تصيب سفينة المجتمع،قد تتفاوت في أحجامها، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن اجتماع الخروق وتراكمها عليها حتى في حالة كونها صغيرة، من شأنه أن يصنع ذلك التحول المشؤوم الذي يتمثل في التصدع والانهيار، فما بالك إذا كانت الخروق كبيرة هائلة. إن استشراء المعاصي والموبقات على متن سفينتنا، من ظلم وفجور، وتبرج وسفور،وتعاط للربا والخمر والزنا، والرشوة والارتشاء،في تشابك مع الرذائل النفسية الأخرى كالغيبة والنميمة، والبخل والكبر،والخديعة والخيانة والغدر، كل ذلك خروق هائلة تتجه بالسفينة إلى مصيرها المحتوم، في لحظة من ليل أو نهار.
والطامة الكبرى، هي أن تسوغ تلك الكبائر جميعا ويروج لها تحت أسماء وعناوين ما أنزل الله بها من سلطان،تتولى كبر ذلك شرذمة من الأقذار تحت غطاء الثقافة، عبر منصات يقيمها الشيطان،هي عبارة عن إعلام فاجر يزين الفواحش والخنا،ويعمل على إضعاف ولاء الناس تجاه المقدسات، وإتلاف مناعتهم، حتى لا ينبض لهم عرق، غضبا لها،وإدانة للطاعنين فيها، المتجرئين عليها.إن المرء لتأخذه الحيرة أي مأخذ، وهو يرى مجلات خليعة تتسكع في الأكشاك والمكتبات،أتت على الأخضر واليابس،ولم تترك مما تحترمه الأمة شيئا، إلا وامتهنته واقتحمت حماه، بكل صفاقة وانعدام حياء،سواء تعلق الأمر بما هو وطني أو بما هو ديني.يفعلون ذلك وهم يشعرون بأمن غريب، يثير ألف تساؤل وتساؤل،فقد داسوا كل الخطوط الحمراء، ولا من حسيب أو رقيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.إن المرء لينظر بألم وإشفاق، والحسرة تملأ قلبه، إلى سفينة مجتمعنا وهي تغص بالمياه العادمة، وتمتلئ بالحيات والعقارب، وتميل بأهلها نحو القاع، إلا أن يشاء الله بعباده لطفا.
إن أي موقف يتخذ من قادة عالمنا العربي والإسلامي لايراعي مصلحة الأمة العليا، يعد خرقا يقترف في حق سفينتها، يجعلها تجنح نحو التحطم والانكسار، وإن أي سكوت على ذلك أو تقصير في تقويم الاعوجاج، يعد مساهمة في ذلك الصنيع الشنيع.وهل يرجى لسفينة العالم العربي والإسلامي سلامة واتجاه نحو هدفها المنشود،والحال أن السرطان الصهيوني قد التصق بكل شراسة وشراهة بكل موضع فيها؟ إن محو وصمة التطبيع، والعمل على اقتلاع ذلك السرطان البغيض من جسم سفينتنا المنهك،مقدمة أساسية لأي إنقاذ مرتقب.
أما إذا نظرنا إلى سفينة المجتمع العالمية، أو سفينة البشرية،فإننا نرى أنها ليست أحسن حالا، ولا النجاة لها أقرب منالا ،لأنها ابتليت بربابنة لا يعدون أن يكونوا لصوصا محتالين، يظهرون براعتهم في تكبيل المستضعفين من الركاب، والسطو على غذائهم ومتاعهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم،باستثناء من يدينون لهم بالعبودية والولاء،فهؤلاء يحظون لديهم بكرسي، ولقمة ممرغة بأوحال الذل والهوان. ولن ينقذ هذه السفينة من الأعاصير والريح العقيم التي تهب عليها من كل جانب إلا هبة عالمية يحمل لواءها المسلمون باعتبارهم مؤهلين لها عقديا وتشريعيا وحضاريا، تسندهم في ذلك جبهة عريضة تضم جميع الشرفاء المنصفين الكارهين للخسف والجور، المحبين للعدل والإنصاف والانعتاق.ويعني هذا أن يطوح بكل المنظمات والهيئات المسماة دولية، بكل أشكالها وألوانها،ويستبدل بها منظمات ذات مصداقية وجدارة بحمل هم الإنسانية على عاتقها،وخط الخطط والاستراتيجيات الكفيلة بالتطهير والتحرير والتنوير، ومعاقبة الجناة وإقصائهم من ساحة الإنسانية، وما ذلك على الله بعزيز،”ولتعلمن نبأه بعد حين”)ص:88 ( “ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا”)الإسراء:51(. إن ما يسمونه اليوم بالقرية العالمية المقهورة تحت سلطان العولمة،لن يتم لها الانعتاق إلا بترياق الأسلمة،وهو أمر دونه جهاد مرير،تحشد له الطاقات، ويسترخص من أجله كل غال ونفيس.
ج-1 زاد السفينة وصمام أمانها:
إن أول ما تحتاجه سفينة المجتمع المرشحة للإبحار في اتجاه النصر الموعود، طاقم يتألف من الأقوياء الأمناء،العارفين بالمسالك والمهالك،ذوي الدراية بالمحيطات والمرافئ والخلجان والشطآن،أي خريطة الإبحار التي لا يند عنها صغير أو كبير، مما يحتاجه ركاب السفينة.
وثاني ما تحتاجه السفينة من زاد،ركاب مخلصون ديدنهم الصلاح والرشاد،يعرف كل واحد منهم حدود علاقاته وتصرفاته، وينضبط لأخلاق التصرف والسلوك داخل حرم السفينة ورحابها، وهي أخلاق تقوم على الاستشارة والاستخارة، والضبط والانضباط، والنصح والانتصاح، والزهد في الدنيا، وابتغاء الدار الآخرة، فضلا عن الشورى العامة التي تنشر سلطانها وتلقي بظلالها على مرافق السفينة كافة.كما تقتضي تلك الأخلاق أن تقوم علاقات الأعضاء على التعاون على البر والتقوى، والأنفة من كل مرذول من الشيم والعادات. يقول الله سبحانه:” وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب”)البقرة: 197 (
وثالث ما يتوقف عليه الإبحار الثابت والحثيث لسفينة المجتمع،ذكر لله مستمر وكثير،يربط صلة الأعضاء بربهم،برباط الأنس والخشية، والخوف والرجاء،استجابة لأمر الله عز وجل:” يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا” )الأحزاب :41-42 (، وإذا كان ركاب السفينة بمثابة دواليب السفينة وأجهزتها،فإن الذكر مما لا شك فيه،هو العاصم لها من الصدأ، وقبل ذلك من الجفاف،وهو عون لها على الجريان الواثق في عرض المحيطات والبحار.
وثالث مقوم ينبني عليه أمن السفينة وسلامة إبحارها،تحصينها بقوة ترهب الأعداء، المتربصين بها الدوائر،فلا سلامة لسفينة تبحر في العراء،وتأمن كيد الأعداء.يقول الله سبحانه وتعالى:” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم” ) الأنفال:60 (.
ورابع عنصر ومقوم يتوقف عليه أمن سفينة المجتمع،وهو مقوم يلقي بظلاله على سائر أرجائها،ويشكل مناخا سليما، يسمح لكل القوى المكنونة أن تخرج، ولكل المواهب الكامنة أن تتفتق وتنمو، وتورق وتزهر وتثمر،هو مقوم الشريعة بأحكامها الغراء،ونظمها العصماء،وقيمها الحسناء.
وخامس مقوم ،متضمن في السابق ،ولكن من باب ضرورة إبرازه، نخصه ببند خاص،لاسيما وهو جوهر القصد من الحديث النبوي الشريف الذي نحن بصدده: إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فهو الحصن الحصين على مستوى حمى السفينة الداخلي،الذي يصد عنه غوائل الفيروسات والجراثيم القاتلة، ويمنعها من التعشيش والاستفحال.
ج2- سفينة المجتمع وضرورة التعهد والصيانة:
إن سفينة المجتمع، التي تستفرغ الوسع من أجل الوصول إلى بر الأمان وتحقيق المقاصد والأهداف،وهي ترقية الحياة وترسيخ الكرامة للإنسان عبر تعبيد الناس لرب الناس،لا مناص لها، وهي التي تغالب قوى الشيطان والنفس الأمارة بالسوء،من أن تصاب بالتعب والارتخاء،بفعل آثار المغالبة والصراع،وهذا يفرض ضرورة الصيانة بين فترة وأخرى، من أجل التخفف من أوضار الصراع وأوهاق الإبحار.ولذلك فإن قانون سفينة المجتمع في المنظور الإسلامي، تقضي بإخضاعها لعمليات صيانة دورية يستفيد منها كل الأعضاء بدون استثناء،لتقوية العزائم وشحذ الهمم، وتجديد الإيمان، من أجل مواصلة الإبحار ومغالبة الأمواج، ولسان الجميع يلهج في خشوع وثبات ويقين ببلوغ المراد: ” بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم” (هود:41(
وتتم هذه العمليات الدورية للصيانة، من خلال محطات أسبوعية كما هو الأمر بالنسبة لصلاة الجمعة،وسنوية كشهر الصيام،ومرة في العمر عدا النوافل والتطوع، كما هو الأمر بالنسبة للحج والعمرة. إن أثر هذه العبادات والقربات بالنسبة لأعضاء سفينة المجتمع،هي شبيهة تماما بأثر صيانة السفن الخشبية، عندما تدخل إلى الأحواض الخاصة بذلك، لتشحيمها وضبط دواليبها، فتواصل الإبحار بعد ذلك، وهي أشد صلابة وتماسكا.
ج3- لا تخرق السفينة ولا تتسبب في خرقها :
إن حديث السفينة يحمل خطابا دقيقا وواضحا “لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد” )ق:37 (: حذار من أن تخرق السفينة أو تتسبب في خرقها فتبوء بإثمك وتكون على خطر من أمرك، ولا يشفع لك في صنيعك ذاك،أن تزعم نية الإصلاح،فلا يعذر عاقل بالخلط بين الحق والباطل، وبين الإصلاح والإفساد.ف”إن الحلال بين وإن الحرام بين، و بينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه”) رواه البخاري ومسلم (.
رابعا: خاتمة:
إن الذين تبدو لهم سفينة المجتمع هادئة مستقرة،رغم ما يعتلج فيها من آثام، وينخر فيها من معاصي وذنوب، إنما هم ذوو الرؤية القاصرة والنظر الكليل، بفعل حجاب الشهوات، أما ذوو الرؤى الناقدة النافذة،فيرون تلك السفينة على خطر عظيم،لما يبصرونه من هول الأمواج التي ترجها رجا، وتعلو بها وتهبط عبر تيارات رهيبة، فيشفقون لحالها، ويخشون على مصيرها، وقد يبكون بكاء مرا، لضعف النصير وقلة الزاد، ولا يملكون إلا الابتهال والدعاء، لرب العباد، بكشف الغمة ورفع البلاء،واستفراغ الجهد، إبراء للذمة وتخفيفا للعناء.
إن قاعدة القواعد التي ينبغي أن يعض عليها بالنواجذ، هي أن سفينة تبحر بشراع الإيمان، خليقة بأن تكلأها عين الرحمن، وتصير إلى بر الأمان،إنها سفينة رائدها البر والإحسان، ووظيفتها الشهود على الناس، برسالة الخلاص،والحمد لله رب العالمين.