تجاهل الثأر
محمد شحلال
تعتبر الرغبة في الثأر شعورا غرائزيا في جل الكائنات ،بما فيها الطبيعة التي تدهشنا في هذا العصر بصور فظيعة من الانتقام، ولكن الإنسان يظل متفردا في طرق الانتقام،ولا يتجاهل هذا السلوك إلا عندما يرقى فكره ومشاعره، فينتصر على عدوه بشكل حضاري لينتقل الألم إلى نفسية هذا الأخير ،ويحس بهزيمة لا يخفف منها إلا الاعتذار والتماس الصغح.
كان الثأر من الصفات المتجذرة في الإنسان العربي على وجه التحديد،واحتفظ له التاريخ بصفحات سوداء في مجال رد الثأر، لم تستثن منها حالات تافهة مثلما كان الحال في حرب البسوس، فما بالك بالحالات التي ترتبط بالترة والمس بالشرف على سبيل المثال؟
إن النزوع إلى رد الثأر مازال يجد بين الناس في عصر الحضارة هذا ،من لا يقبل عنه بديلا ،بالرغم من بعض الحالات التي الشهيرة التي رد فيها الضحايا على الجناة بأرقى أشكال التسامح، وجعلوا الناس يراجعون إرثهم الهمجي في رد الثأر بأشنع صوره.
لم يسلم أحد زملائي في الدراسة بثانوية عبد المومن من رغبة جامحة في الانتقام من مسؤول إداري عن شؤون الداخلية.
كان المسؤول إداريا كفؤا،لكنه كان متقلب المزاج بسبب،،بلية،،لم يسلم منها إلا القليل من الناس.
كان هذا المسؤول في الأحوال الطبيعية يتقمص صورة الأب الجماعي لنا نحن-معشرالتلاميذ الداخليين-حيث لا يخفى حرصه الشديد على مصلحتنا ،مما جعلنا نكن له مودة خاصة لا سيما حين عرفنا سر تقلبات مزاجه.
لقد بلغ بنا التعلق بهذا المسؤول، أن خضنا اضرابا واعتصاما حين اعتقلته الشرطة وهو في حالة غير طبيعية،لأن الرجل كان الإدمان قد بلغ به درجة متقدمة.
،فنسأل الله أن يتجاوز عنه .
كان م.ن.من أصدقائي المفضلين في الداخلية، ولعل ما وطد علاقتنا أكثر، هو ترديده لبعض أشهر اهازيج الأطلس المتوسط الذي ينحدر منه ،والتي هي من الأهازيج الأثيرة إلى نفسي.
كان م.ن. حريصا على التحصيل مثل جل التلاميذ الداخليين المتعطشين للانعتاق من حياة الانضباط الروتينية بالداخلية، لكنه لم يكن محظوظا مع المسؤول الإداري ،حيث شاءت الظروف أن يصادفه عندما كان مزاجه مضطربا ،فأفرغ فيه جام غضبه،ونعته بكل ما في قاموسه من ألفاظ الاستصغار،بل صار هذا الزميل حائطا قصيرا للمسؤول ليجدد فيه حصص القدح كلما لقيه وبدون أدنى مبرر !
لم يكن زميلي حالة وحيدة، غير أن الآخرين سرعان ما تفطنوا لمزاج المسؤول ،فأصبح سلوكه هذا معتادا ،ينفس عنهم أكثر مما يؤلمهم لعلمهم اليقيني بأن سريرة الرجل خالية من الحقد الدفين، وكل ما في الأمر أن ما يصدر عنه من حين لآخر ،هو مجرد تخفيف عن النفس في حالة حاجتها للجرعة المألوفة.
عندما توالت حملات المسؤول على زميلي الوديع،شعر بغبن عميق الأثر على نفسيته، وأسر لي بأن أول هدف له في الحياة،هو الانتقام من هذا المسؤول الذي اتخذه مادة للتندر القاسي دون مراعاة لمشاعره في هذا السن الحساس .
لقد فكر م.ن. مليا في وسيلة الانتقام،وظل يخطط للوصول إلى هدفه، وما لبث أن اهتدى إلى الحل.
لم يخف عني م.ن.أنه اقتنع بأن أنجع طريق لرد الاعتبار لنفسه، هو أن يلتحق بالأكاديمية العسكرية بمكناس ليتخرج ضابطا ،ومن ثم يسهل عليه أن يجعل غريمه يطأطىء الرأس عند قدميه ؟
خلال ثلاث سنوات كاملة، لم تزدد رغبة زميلي في الانتقام وعزيمته إلا إصرارا .
شاءت الأقدار أن ننتزع شهادة البكالوريا في نفس السنة ،ويوفق صديقي العزيز في الالتحاق بالأكاديمية.
لم تنقطع صلتي ب م.ن.خلال السنوات الجامعية بفاس، لكن حديث الثأر لم يعد له أثر في أجندة التلميذ الضابط،ذلك أنه -ربما-استوعب أبعاد الانضباط العسكري التي تفسر شيئا من سلوك مسؤول الداخلية ،والذي ترجمه في صور أخرى كانت قاسية في إبانها،لكن ثمارها تطلبت ما يلزم من الوقت لتنضج !
لعل م.ن. أدرك أبعاد سلوكات معظم المسؤولين ،فتجاهل مشروعه القديم،بل لعله اكتشف أن الرجل قدم له خدمة حين تحولت حملاته المزاجية إلى حافز لمضاعفة جهوده في التحصيل، فوجب أن يحول حقده إلى ثناء على الرجل الذي لن تفارق شخصيته أجيالا من التلاميذ الداخليين بثانوية عبد المومن الأسطورية.
انقطعت عني أخبار م.ن.إلى أن أخبرني أحد زملائنا المشتركين قبل سنوات عديدة بأنه صار عقيدا في الجيش.
تحية صادقة ل .م.ن. ولروح الأب الغيور لأجيال من التلاميذ الداخليين.