متلازمة الزاوية و الضريح بين صدق النوايا والتصيد المريح
الدكتور محمد بنيعيش
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المملكة المغربية
أولا:الضريح بين المدلول السليم والاستغلال الأثيم
يبدو أن مفهوم الزاوية قد صار متلازما تلازما ذاتيا مع مصطلح الضريح في أذهان العامة وأيضا الخاصة، وذلك لتحول الطرق الصوفية من نزعة فردية أو جماعة محدودة ومعدودة إلى مدرسة منظمة ومرتبة وذات تسلسل روحي ونفسي واجتماعي وربما اقتصادي أيضا.إضافة إلى هذا فقد أصبح الضريح سواء في الفكر الصوفي أو السياسي والاجتماعي العالمي عبارة عن معلمة تخلد ذكرى رجل عظيم قد تولى ،له تاريخه وتراثه وفضائله ،كمحفز على التواصل المستمر بين السلف والخلف من باب الالتزام بالمبادئ والولاء والوفاء بالعهد…
وهذا الأمر لا علاقة له بانحراف العبادة أو الشرك والبدع وما قد يمس بسلامة العقيدة بوجه من الوجوه !.فقد يكون ضريح سلطان عادل أو ولي صالح أو عالم نحرير أو جندي ومجاهد شهيد…
وبهذا فقد يتوالى على إدارة شؤون الزاوية ومعها معلمة الضريح ورثة الشيخ ،إما باستحقاق معرفي ووراثة روحية معرفية وإما بوراثة تقليدية تبركية وامتداد طبيعي لكل تجمع بشري في أي ميدان كان،وكل له إيجابياته وقيمته.وعند هذا التسلسل فقد يكون الالتزام والدوام أو التخلخل والتسلل وظهور الأورام والعلل.وهنا كما نرى ينشأ التمصوف والتمشيخ والتكلف والتخلف…
فلقد أصبح التمصوف كظاهرة مرضية منذ زمان بعيد ذا ألوان متنوعة لا تحصى في أساليبها وطرق استغلالها لميدان التصوف التحقيقي وميل الناس إلى تعظيم واحترام أهله،يكاد يشبه طرق” آل ساسان ” التاريخيين وحيلهم في التسول واستغلال الآخر بأدنى الأتعاب. إذ كما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى: “وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع العلوم الخفية وذلك مما لا رخصة في ذكره، وقد يجوز إظهارها حتى لا يقع الغرور”9. بحيث إن المتمصوف أو المتقمص لدور الصوفي قد لا يجد عناء في كسب ثقة العامة حينما يريد أن يلبس عليهم أمره أو أمر الزاوية و الضريح أو القبر الذي يتخذه وسيلة لغايته، وذلك بمجرد دعواه ولو بغير حجج أن صاحب هذا القبر كان وليا صالحا تجد الناس يقصدونه بالزيارة والتبرك حسب نواياهم وبواعثهم.
وهذا عمل حسن ومقبول منهم إن بقي على سبيل المحبة و التذكر والتفكر والاعتبار،أو كمعلمة روحية وتاريخية ،ولم لا التبرك في حدود الشريعة وسلامة العقيدة، بيد أن الأمر قد لا يبقى عند هذا الحد بل المشكلة تكمن في المحيطين بالقبر أو الضريح المقصود بالزيارة،خاصة إذا كان غير موثق ولا تاريخ له ولا سند صحيح في نسبة القبر إلى صاحبه .
إذ هناك سيجد المتمصوفة فرصتهم لبث الخرافات والأكاذيب من باب ادعاء الكرامات المبالغ فيها لاستغلال المشاعر الطيبة للجمهور الزائر وبالتالي العمل على ابتزاز أمواله بشتى الوسائل ولو بالتسول في باب التوسل على سبيل ادعاء القدرة على التطبيب والعلاج من الأمراض الروحانية أو الصرع أو قراءة الغيب بالفأل المنظوم والمزيف، وما إلى ذلك مما قد يفتعله المتمصوفة من خلال التمويه بدعوات وتمتمات محفوظة توهم العامي الغمر بنوع من المعرفة والخصوصية، بينما الأمر ليس سوى تحايل وتغرير من أجل الابتزاز المالي والنفسي، وربما الاستدراج الجنسي في كثير من خلوات الأضرحة والأماكن المسماة غلطا وزعما بالزوايا، حيث لا تجد مراقبة رسمية ولا علمية أو وعيا اجتماعيا بخطورة هذا الابتزاز والتغرير عند سكان هذه المنطقة أو تلك، وهذا ما يشيع كثيرا في عدة أماكن وخاصة عند خلوات نائية غير مقصودة بكثافة!
كما قد نلاحظ ظاهرة التسول الفاحش عند هذه الأضرحة المهملة وتكريسه سواء من طرف القيمين على صيانتها أو السكان المجاورين لها، حتى قد أصبحت هذه الصفة كأنها من لوازم كل من ينتسب إلى ولي صالح، وهو ما يسيء إلى الصوفية كثيرا في ربط هذه الظواهر بهم رغم أنها تناقض سلوكهم وأخلاقهم مبدأ وغاية وعلى رأسها الزهد والورع والكفاف والعفاف. لكن الجمهور الغمر وماكري المتمصوفة هم الذين ساهموا في تشويه هذه الصورة، إضافة إلى تكريس بعض السلطات وتشجيعها لهذه الممارسات، إما بحمايتها وغض الطرف عنها، وإما بدعمها ماليا على سبيل نثر الحب للالتقاط وجس النبض. هذا مع علمهم بأن هؤلاء المتمصوفة لا قيمة لهم دينيا ولا أخلاقيا ولا علميا، ولكن من باب تمرير الهدف السياسي أو الأمني لترويض وتدجين الجماهير حتى يتحقق الاستقرار الوهمي والانصراف للاشتغال بما لا يدع مجالا للإلحاح في المطالبة بالحقوق والواجبات والإصلاحات العامة والمهمة، وبالتالي تكريس التسليم لمن لا يستحقه من الأحياء والأموات كمهدئ بارد وقاتل!
ومن هنا فقد تغير مفهوم الزاوية لدى العامة وحتى أشباه العلماء في كثير من البلدان وأصبح في منظورهم عبارة عن مقبرة مسقفة تحتوي عدة قبور يأتيها الناس لاستدرار الحياة من الأموات ليس إلا، إذ أصبح المخيال الشعبي لا يفصل الزاوية عن المقبرة، بل أصبحت هذه الأخيرة هي أهم خصائصها والمميزة لها، ومن ثم وجد المتسلفة الوهابيون وغيرهم من التيميين المتطرفين الفرصة سانحة لوصف الصوفية بالقبوريين، فكان التطرف مقابل التطرف وضاعت بينهما الحقيقة!
ثانيا:تأصيل الزاوية وحماية التاريخ من خلال الضريح
إذ الزاوية في الأصل ليست سوى بيت من بيوت الله تعالى يمارس فيها الذكر المتواصل مع الرغبة في التزكية والتربية وتحصيل الطهارة الظاهرية والباطنية، كما نجده في قول الله تعالى: ” فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ “.
فتغير مفهوم الزاوية ودورها الروحي وأصالتها الدينية إلى مجمع فلكلوري أو مجال للشعبذة هو الذي أصبح يغلب على أذهان العامة وحتى أشباه العلماء الذين يعانون من بطالة فكرية وكسل عن البحث في حقائق الأشياء ودقائقها، ومن ثم تجند أصحاب المفهوم السليم والأصيل للزاوية ومؤسستها، فاستخرجوا ما كان مغفولا عنه اصطلاحا ومضمونا وذلك من أجل تصحيح المفاهيم وردع كل متطفل وواهم. بحيث نجد الشيخ سيدي جمال الدين القادري بودشيش شيخ الطريقة والزاوية الحالي قد سار في هذا البحث من خلال أطروحته الفذة “مؤسسة الزاوية بالمغرب بين الأصالة والمعاصرة” إلى تصحيح مفهوم الزاوية ودورها الروحي والاجتماعي والتاريخي مع التنبيه على خطر تغير المفهوم الاصطلاحي ومضامينها عبر التقادم والتآكل التاريخي. نقتبس بعض فقرات تقرير مناقشته، يقول فيها كأول استنتاج: “ولئن جرى العرف الأكاديمي على أن يقدم الباحث في خاتمة عمله أهم النتائج التي توصل إليها فإن هذا العرف يجعلنا ملزمين مع الاعتراف بتقصيرنا بإبراز النتائج التالية:
– تأكد لنا خطر الأطروحة التي روج لها بعض المستشرقين ورددها وتبناها بعض الكتاب المعاصرين، ومفادها أن لفظ “الزاوية” بدأ يحل تدريجيا محل الرباط في المصادر ابتداء من القرن السابع الهجري الموافق للقرن الثالث عشر الميلادي، ذلك لأننا عثرنا على ورود مصطلح “الزاوية” في مصدر عريق، ويعتبر من أمهات مصادر العلوم الإسلامية ألا وهو صحيح الإمام البخاري، حيث ورد فيه قوله في ترجمته لباب من أبواب كتاب الجمعة “باب من أين تؤتى الجمعة؟ وعلى من تجب؟ لقول الله عز وجل “إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة” وقال عطاء: إذا كنت في قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الجمعة فحق عليك أن تشهدها سمعت النداء أو لم تسمعه – وكان أنس رضي الله عنه في قصره أحيانا يجمع وهو بالزاوية على فرسخين” ومن المعلوم أن أنس بن مالك رضي الله عنه صحابي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وقد توفي سنة تسعين هجرية، وهو آخر صحابي مات بالبصرة. ولعل مما يزيد استخدام مصطلح “الزاوية” منذ فجر الإسلام تأكيدا ما نجده في كتب شراح صحيح البخاري، فمن ذلك ما قاله الإمام بدر الدين العيني في عمدة القاري: “الزاوية هو موضع ظاهر البصرة بينها وبين البصرة فرسخان” وقال الإمام ابن حجر في فتح الباري: “الزاوية موضع ظاهر البصرة معروف وهذا وصله ابن أبي شيبة من وجه آخر عن أنس أنه كان يشهد الجمعة من الزاوية وهي على فرسخين من البصرة” فهذا الاسم إن كان علما يدل على مكان معين يرجح أنه ارتبط بالاعتكاف على العبادة واشتق منها.
فمؤسسة الزاوية والتربية الصوفية،على حد تعبير الشيخ جمال الدين، متجدرة في البيئة الإسلامية لفظا ومعنى مصطلحا ومضمونا، وليست مستوردة ولا مستنبتة ولا مزروعة في كيان الأمة الإسلامية، بل إنها من أصالتها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين”11. فكان هذا استنباطا ممتازا وتنبها دقيقا وعميقا من شيخنا سيدي جمال الدين يبين عن مدى أصالة المفهوم الصوفي لديه، معرفة وذوقا ومصطلحا ومؤسسة، إذ الزاوية القادرية البودشيشية ومعها كثير من الطرق والزوايا الأصيلة في داخل المغرب وخارجه،تبقى شاهد عصر، ومؤكدة ما قلناه عن مفهوم الصوفي والتصوف، ومفهوم الطريقة والزاوية في حلتها الأصيلة والراقية ودورها التربوي والتعليمي والاجتماعي والوطني، وقبل هذا وذاك التوحيدي الروحي.
وحينما تبرز طريقة أو زاوية أصيلة على يد شيخ محقق ومجدد فقد يلجأ بعض البطاليين من رجال الفكر والسياسة عندما يشعرون بأن نجمهم آيل للأفول وبعد أن تمكنوا من استقطاب فئات من الجماهير على سبيل التزوير والتغرير إلى استعمال المتمصوفة الذين سبق وحددنا مواصفاتهم كوسيلة لمحاربة الصوفية الحقيقيين من المصلحين والمجددين في الأمة. وذلك بالعمل على تحريك الطرق الميتة، والنفخ الوهمي في أشباحها بالريح لا بالروح، وذلك لسلوك أسلوب المنافسة وإحياء الليالي المتتالية وإقامة الحفلات والمواسم لم تكن من قبل معهودة لديها، بل كانت قبلها جامدة وربما خاوية على عروشها لا يرتاد زواياها سوى العجزة والبطاليين والفاشلين وأيضا المعتوهين والمهوسين والممسوسين، اللهم إلا ما قد نجده من بعض الطرق التاريخية الكبرى التي ظلت في كثير من جوانبها تحافظ نوعا ما على شيء من الانضباط الشرعي ظاهريا على أكثر تقدير، أما من الجانب الروحي والترقي واعتبار المراحل والأحوال والمقامات فهذا مناله بعيد وبعيد جدا!
ومما زاد هذا النوع من التمصوف تجذرا وتكريسا في المجتمع الآيل للانحلال والانحراف هو ما تقوم به بعض وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية من إبراز مظاهره على شكل ما يسمى بالتراث الشعبي مع إضافة كلمة صوفي أو روحي إليه، وما يصاحبه من أعمال بهلوانية وحركات فلكلورية بل تفسيرات خرافية ووهمية للحركة الروحية عند الصوفية، بحيث قد أصبحت تعرض وكأنها عبارة عن فلكلور أو رياضة بدنية وطقوس شعبية ذات اعتماد مبدئي على إيقاعات موسيقية تساهم في تحصيل الاضطراب البدني ذي الخلفية العصبية والمكبوتات النفسية.
حتى قد وجدنا عروضا من هذا القبيل يشارك فيها تائهون غربيون جاؤوا يبحثون عن التصوف الحقيقي الذي قرأوا عنه في الكتب فإذا بهم يقعون فريسة هذا النوع من المتمصوفة الذين زادوهم في تيههم وحولوهم عن قصدهم. وبالتالي صدروا معنى التصوف محرفا وشاذا من خلال ما رأوا أو مارسوه إما بسذاجة أو مكر استشراقي، هدفه القيام بدراسة الأنماط الاجتماعية والسلوكية والعقدية الطائفية الحاصلة في الأمة، ووضع اليد على مواطن الضعف فيها حتى يتسربوا إليها من بابها ويغرروا بها بأساليبهم المعهودة في المكر والخداع الثقافي!
فقد رأينا في بعض البرامج المتلفزة لقنوات متعددة صورا مخجلة من هذا القبيل كمثال بعض النساء والرجال الأوروبيين مسنين وشبابا وكهولا قد يدعون أنهم وجدوا أنفسهم في طقوس وحركات مبنية على الرقص المفتعل والمنظم مع اختلاط بل احتكاكا بالرجال وإيقاعات موسيقية في بعض التجمعات المسماة غلطا بالزوايا أو التكايا والتي قد تنسب خطأ إلى التصوف، لكنها أبعد منه بعد المشرقين والمغربين!
وهذا العرض وغيره من العروض كأصحاب السواطير والأباريق المشروبة من الماء المغلي والصخب الموسيقي المزعج وغير ذلك مما لا علاقة له بالعبادة من قريب أو بعيد قد يكون الهدف منه إساءة نظرة الجمهور للتصوف كعلم إسلامي جوهري في درجة الإحسان، وبالتالي صرفهم عن سلوك طريق الحق والصلاح نظرا لما يعهدونه من خروقات ومفاسد قد تصبح لديهم من العوائد والأعراف الشعبية التي قد يلزقونها ظلما وعدوانا بالصالحين من ذوي الأضرحة والأصرحة،و الذين كان همهم الوحيد هو إصلاح ذاتهم وغيرهم والعزوف عن شهوات الدنيا ومفاتنها واجتناب أماكن الشبهات والمحرمات.
في حين أن توظيف مصطلحات فضفاضة، من مثل كلمة القيم الروحية والأخلاق الإنسانية والتوجه السلوكي والتواصل والتعايش والمحبة في مثل هذه المواقف المختلة ، لا علاقة لها بالتصوف كعلم قائم بذاته وله قواعده،وهي بمثابة تعدي على التصوف الحقيقي وعلى التراث وعلى منهجية البحث العلمي الدقيق،وهذا ما لا يقبله صوفية التحقيق بتاتا.