شخصية الفقيه في السينما المغربية – سينما عز العرب العلوي نموذجا-
أحمد الجبلي
لقد قدمت السينما المغربية شخصية الفقيه كشخصية ضعيفة مترهلة ساذجة تشتغل في أغلبها بكتابة التمائم والطلاسم، ومنشغلة بالولائم والقبور وقراءة القرآن على الموتى. وفي أحسن الأحوال تظهر كشخصية معزولة سلبية لا تتفاعل مع ما يقع في المجتمع.
ففي فيلم “حلاق درب الفقراء” لمحمد ركاب مثلا يقدم المخرج شخصية الفقيه مشوهة بشكل لم يسبق له مثيل، فهو ذاك الشخص الضعيف التابع للبرجوازي المتعفن جلول والذي يتلاعب به كيفما يشاء، يقوم بتوظيفه لمآربه الخسيسة، ويخبره بأنه مجرد بهيمة وحمار يلتصق به كالعلقة.
وفي منظر مقزز ينحني الفقيه ليقبل قدمي السي جلول، ويعترف أمام العامة على أنه بهيمة وحمار، فيسخر منه الناس ويضحكون، ويطلبون له الإسعاف على أساس أنه أحمق.
وفي أفضل الحالات، يبرز الفقيه في السمفونية المغربية لكمال كمال وهو يقرأ القرآن على الفقيد با لحسن ويدعو بصورة سريعة مشوهة كأنه في سباق لذلك لم يفهم أحد ما كان يقول وهو الأمر الذي عبر عنه الممثل رفيق بوبكر بقوله: با لحسن مات ومالقاش حتى اللي يقرا عليه سورة صحيحة”.
ولكن عندما أتى المخرج المغربي الأصيل والمتميز عز العرب العلوي لمحارزي خالف تلكم العقلية السينمائية الرتيبة سواء فيما يتعلق بالإبداع واللمسة الفنية الباهرة، أو فيما يتعلق بصورة الفقيه التي خولها دورا مرموقا ورئيسا سواء في مجتمع “كيليكيس” أو مجتمع “أندرومان”.
في فيلم “كيليكيس” اعتبر الفقيه “أبو أمين” مركزا للاستماع والإنصات لكل ساكنة القرية، وهو المربي والموجه الذي يلجأ إليه المنكوبون والمهمومون لكونهم وجدوا فيه حكمة وعقلا وقلبا واسعا يسعهم ويسع مشاكلهم.
وهو رجل كريم، بيته مفتوح في وجه العامة، يعطي مما عنده فيكرم كل من دخل بيته من التمر ولا يميز في ذلك بين من يشتغل في القلعة مثل حميدة أو وافد عليها مثل الحاجة. وهي صورة معاكسة لما تم الترويج له من أن الفقيه هو رمز البخل يأخذ ولا يعطي، همه الوحيد هو جمع المال والسعي إليه بشتى الوسائل سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة.
إن فقيه كيليكيس هو من يقتني الكفن للموتى، وهو من يقوم بدفنهم، وقد أنشأ أبناءه أبطالا ساهموا في تحرير القرية من طيش الاستبداد والترهيب وتكميم الأفواه. كما قدم ابنه أمين في سبيل هذا الوطن وفي سبيل الحرية والكرامة، وكانت وفاته أحد أهم الأسباب التي قلبت الموازين ودفعت إلى حراك أدى إلى إغلاق المعتقل الرهيب.
وفي قرية “أندرومان”، زاد المخرج من جرعة رد الاعتبار للفقيه، فجعله شخصية قوية، حاضرة بكل قوة في المجتمع، فاعلة، مهتمة بشؤون الناس وهمومهم، بل ويسهر على إصلاح ذات البين، وجمع شتات الأسر حتى لا تتفرق وتتمزق، ويوجه ويربي ويحتضن. وهو في نفس الوقت شيخ الزاوية حيث اعتبرت زاويته كمؤسسة إيوائية تؤوي وترعى المشردين ومن لا مأوى لهم، كما احتضنت “الفتاة أندرومان” نفسها، وقد تم احتضانها من طرف نسوة الزاوية، بأمر من الفقيه، فوفروا لها عناية خاصة اعتبارا لوضعها السيء الخاص ومواساة لها لما تعانيه من مشاكل.
كما ظل الفقيه يلعب دورا هاما في الرفع من منسوب الوعي لدى الساكنة طيلة ثلاثين سنة، وهو المدافع الأكبر عن حقوق المرأة والمطالب بحقها في الإرث بما في ذلك إرث الأرض التي كانت حكرا على الذكور. كما لم يجد حرجا في أن يخرق كل الأعراف البالية ويصرح بأنه سيستشير النساء لأن الأمر منوط بهن، مما جعل بعض العقول المتحجرة تسخر من ذلك على اعتبار أنهم لم يسبق لهم أن رأوا رجلا يستشير مع امرأة بله أن يستشير مع جميع نساء الدوار في سلوك حضاري يعد سابقة لم يشهد لها الدوار مثيلا.
كما بدا من فطنته، وحرصه على الانتصار لقضايا المرأة، اختياره لفارس مغوار له تجربة كبيرة في سباق الخيل إذ أوكل المهمة لأمحند اليتيم، وكان واثقا بفراسته وحسن ظنه بأنه لن يخذله وبالتالي لن يخذل النسوة اللائي يعانين من ظلم الرجال.
إن مهمة الفقيه هي بتوفيق من الله تعالى له دون غيره، إذ تعتبر الإمامة توفيقا وجعلا من الله مصداقا لقوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما) (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) أي هي مرتبة شرعية لا تكون إلا وفق الإرادة الإلاهية ومشيئة الله. أي إن الشرع الحنيف قد وفر للإمام انتخابا طبيعيا وجعله في مرتبة مرتبطة بكتابه الحكيم، لذا وجب، على الأقل، تقديره واحترامه.
إن المخرج المغربي الفذ عز العرب العلوي قد أعاد للفقيه صورته الحقيقية، ودوره المتميز، وهي الصورة التي ظلت غائبة في السينما المغربية طيلة عقود، بل قد تم تشويهها ومسخها باسم التوجه الحداثي الذي يعتبر الفقيه وكل ما يتعلق بالدين تخلفا وارتدادا.