الثقب الأسود الذي ابتلع العدالة والتنمية
رمضان مصباح الادريسي
راكب الأسد مزهو الى حين :
للنكبة التي داهمت حزب العدالة والتنمية ، وهو في أوج حكومته وعزه، جذور تتجاوز القشرة الانتخابية ،نازلة الى عمق الأعماق؛ حيث التربة الفقيرة لفكر سطا على كل مخرجات الديني ،وسرق كل حقوق التأليف، متوهما أنها مفاعل نووي قادر على انتاج طاقة تدبير الدول ،الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والحال أن عمق الديني مجرد سؤال ينتظر إجابات متجددة تراكمها العصور ،الى ما لانهاية.
أن تتوهم السؤال جوابا ، ثم تقرفص جالسا، هو قمة الكسل الفكري.
هكذا تعالى هذا الحزب عن الواقع ،وعن كل توابل الشرط الديموقراطي ؛ولو أنه انتعل الانتخابات ،غِب ربيع عربي، ليجد نفسه – وهو يسترق الفوز، وان لم يسرق – وجها لوجه مع تدبير الدولة ،بحكومة ،احتار كثيرا قبل أن يقتنع بأنها غير مسموح لها ،تاريخيا وجغرافيا ،بأن تشتغل دعوية .
لا وقت للدينامية التنموية للبلاد لتنتظر استجابة السماء؛ ولا صبر للمتضررين من الفساد المستشري لينتظروا حسابات يوم في حكم الغيب.
وانهار القاموس الدعوي كلُّه ،ولم نعد نسمع غير سقط الكلام وغريبِه ،وقهقهات لا تقول غير: “عَقتْ بِكُم ْ،ابغِيتوا ادَّابْزوني مْعَ الملك”.
وفي مرحلة لاحقة ،استُبدلت القهقهات بابتسامات صفراء باهتة ،لاتقول غير:
كل هذا فوق طاقتي.
غدا الدستور المعدل ،وقد راهنت عليه الملكية والشعب معا، فُضلة في العمل وليس عمدة، بل تُرك وشأنه ،في دواليب المؤسسة الملكية ،بحجة أنه شأن ملكي ؛والحال أنه شأن شعبي بالحراك والتجاوب الملكي ،ثم بالتصويت.
بانهيار القاموس الدعوي ،أمام الواقع التنموي وهو بمعنى ما “لاديني”؛ وبأرشفة تعطيلية لمستجدات الدستور، سقط الحزب المدبر للحكومة في الثقب الأسود ،مستسلما لتدويره بسرعة امتصاصية هائلة ،الى أن تم لفظه جثة هامدة ؛لم تستسغه حتى أغوار الثقب.
بتعطيل القاموس الدعوي ،الذي اشتغل تحشيديا ،لعشرات السنين ، وأرسى قاعدة انتخابية صلدة؛ انهارت الثقة الشعبية ،المنتمية وغير المنتمية، وتبودلت النيران الصديقة مرارا وتكرارا.
ماذا بقي، غير أشباح وزراء اقتنعوا أنهم حيث هم الى حين ،دون أي مستقبل .
قضاء حكم من داخل الحزب قبل الانتخابات؛ وما تكون الأحزاب المنتصرة قد استقوت به، حسب الزعم .
هذا الانكفاء على الذات ،مع ضعف الحركة ،أفضى الى السمنة والترهل؛ كما يقع مع العجول.
وكانت له اشتغالات أخرى ،مالية أسرية ،أخلاقية، خارج المنتظر من الأداء الوزاري.
أرتب على كل هذا الخلاصة الآتية:
نشأ حزب العدالة والتنمية ،كما تسمى لاحقا، نشأة مخبرية مصطنعة – لمواجهة يسار الجامعة دعويا – خارج الحركية السياسية بالمغرب المستقل ،التي لم تستدخل الاشتغال الديني ،لوجود امارة للمؤمنين ضامنة ومؤطرة لتدين الدولة والمواطنين.
ولما انتهى به الأمر ،بعد عشرات السنين، الى مواجهة شباب 20فبراير أيضا؛ متشفيا في أحزاب أفرغت له الساحة قصدا وكرها؛ركب على الأسد الذي أوصله الى رئاسة الحكومة بفوز انتخابي في منتهى الهشاشة.
ولم يكن له من خيار ،في غياب الكوادر والكفاءات ،غير تعطيل دولة لا تشتغل – ولا ينبغي لها أن تشتغل – بالدعوة.
ومن يركب الأسد يزهو بمركبه ،الى حين فقط؛ الى أن يجوع الأسد.
والبقية معروفة.
ماذا سيصيب الأحزاب الأخرى من نكبة العدالة والتنمية؟
لم ينتبه أي من المحللين السياسيين لهذا؟
ربما لأن هول النكبة أصاب الجميع بالذهول ،داخل الحزب وخارجه ؛بل حتى على مستوى بعض الاعلام الدولي.
كما ولَّد فرحا هستيريا ، عكسته مواقع التواصل ،وهو متواصل ،ويبدو أنه لن يخبو سريعا.
أما حدائق الحزن فلم تلجها غير قلة ؛اما لكآبة متأصلة فيها ،أو لكونها تثق كثيرا في قيادتها ثقة المريد في شيخه ،ولو وقف على تركه للصلاة.
لايمكن ألا يتأثر الجسم السياسي المغربي برض عضو فيه ،الى حد البتر تقريبا.
لولا وجود خلل عام في البنية الحزبية كلها ،لما كانت هناك ضرورة لبتر العضو أو رضه. الكل مرتبط بالكل.
في الأصل ،كما أسلفت، كانت الطفرة الدعوية التي استصغرت ،وربما سفهت ، الدينامية السياسية الحزبية، كيفما تسمت.
هنا الخطيئة الأصلية التي غضت عنها الدولة الطرف ، وتحالفت معها في النهاية، لمواجهة يسار جامعي يتقوى عربيا ودوليا يوما بعد يوم.
استمر الجسم السياسي ،مترنحا، لما به من توريم ،جعل بعض المغاربة ينظرون الى غيرهم على أنهم أقل تدينا:
حزب ذو مرجعية دينية ، يحتكرها ريعا غير مبرر اطلاقا ،ضمن أحزاب لم يُشتكى منها أبدا دينيا؛ وامارة المؤمنين شاهدة.
هكذا كان على الأحزاب الوطنية ،وحتى المسماة إدارية، أن تسير بأحذية تخز الأقدام.
واستمر الوخز حادا والحزب الديني في الحكومة .
كل الشأن الحزبي تأثر بهذا حتى غدت أحزابا صورية لإنتاج التزكيات فقط ؛في بعد كبير عن النضال وشرطه ،والمناضل الذي لا رأسمال له غير نضاله ،الذي قتله الأمناء والأعيان.
لسان الحال الحزبي ظل يقول لسنين:
قتلتم العمل السياسي بالانحياز غير المبرر للدعوي ؛ولم يبق الا أن ننيخ بالمناضل ليركب الأعيان ورأس المال ؛هذا ما تبقى لنا من طريق للوصول الى البرلمان والحكومة.
انتهت مواسم النضال الحزبي ،منذ أن سُمح لحركة دعوية باحتكار كل حقوق التأليف ،ثم السياسة والحكومة .
ولم تقنع لأن العين – منذ البداية-على الخلافة الاخوانية،خارج خرائط الوطن.
اليوم وقد جرى ما جرى ،على الأحزاب أن تستبدل أحذيتها بأخرى مريحة ،وتعيد الدينامية والعنفوان للحياة السياسية ،التي لا تعترف الا لإمارة المؤمنين بتدبير الشأن الديني ؛بعيدا بعيدا عن الشأن السياسي.
يجب أن يفسر اندحار الدعوي ،بمستقبل مشرق يستعيد فيه المناضل السياسي مكانته ،بعيدا عن غارات رجال المال والأعيان.
اذا حدث هذا التصحيح الحزبي ،المكمل لكل طموح النموذج التنموي الجديد ،كما سيُنزل ؛فإننا سنعيش في مغرب آخر ؛مؤكدين للأعداء ،الجيران والأوروبيين أن تخوفاتهم من النمر الافريقي كانت في محلها.
وأكاد أجزم ألا تصحيح حزبيا ،في وجود أو انزراع جسم ديني آخر في الساحة السياسية.
اذا استنتج الفكر الدعوي العدالي المنهار، من هذا، ألا مستقبل له في المغرب الا حزبا سياسيا ، فقط، بمرجعية وطنية دستورية، وببرامج تنموية حقيقية ،فسيكون مصيبا.